خاص 218مقالات مختارة

ليبــيا غير قابلة للـتـقـسـيم

د. محمد محمد المفتي

أولا لابد أن نهنئ أنفسنا بإنجاز اتفاق وقف إطلاق النار وعمليا بنهاية حروب الأشقاء التي أوصلتنا إلى حافة تفتت الوطن، وقد سطرت هذه التدوينة قبل ساعات من خبر التوقيع في جنيف، وآثرت نشرها رغم أن الأحداث قـد سـبقـتـنا، ولعلها تجيب على تساؤلات وحيرة البعض، فما زال الطريق طويلا قبل أن تتعافى ليبيا التي نحب.

حين نتأمل ليبيا من منظور اجتماعي، سنرى حقيقة المجتمع الليبي، وحينها سـتبدو ليبيا غير قابلة للتقسيم، لأنها أسرة واحـدة شديدة التجانس والترابط، نظرة بسيطة تكشف لنا هذا التماسك، نظرة إلى لافتات المتاجر في بنغازي، أو طرابلس، أو سبها، أو هـون، أو القلعة، أو غيرها، ألقاب من جميع أنحاء البلاد “الجنزوري، السويحلي، الزوي، النايلي، الرملي، التارقي، السعيطي، البرعصي .. إلخ.” ونفس الشيء إذا تأملنا أسماء القاطنين في أي عمارة، أو فرع مصرف، أو أسماء الواقفين في طابور الغاز والخبز… وأسماء قتلى المعارك !!

لعلكم توافقونني أن المجتمع الليبي يتسم بدرجة عالية من المصاهرة، ولذلك تجد في كل واحة وقرية ومدينة نفس هذه الخلطة من الألقاب، فمن أين جاءت هذه التركيبة؟
قديما كانت ليبيا عرضة لموجات من الجفاف والقحط والوباء، وكلـهـا تقود إلى النزوح، وكان آخرها عام 1947 إثر مجاعة الجبل الغربي، لكن اكتشاف النفط مكــّـن وما زال يمكـّـن الدولة الليبية من شراء 90% من حاجـتـنا من القمح والشعير.

دورات الجفاف عادة ما كانت تصيب إقليم طرابلس، ولهذا كانت الهجرة من الغرب إلى الشرق، حيث الجبل الأخضر الخصيب، لكن ليبيا عرفت هجرات لأسباب أخرى كالخصومات، لذا نجد قبائل من الشرق مستقرة في فزان، ونجد بيوتا قبائل من الغرب استقرت واندمجت في برقة.

عرفت ليبيا التهجير أيضا ، الجوازي وأولاد علي إلى مصر، ووفق التاريخ الشفهي تحكي “تجريدة حبيب” ، أن ابن أحد مشايخ القبائل استنجد بباشا طرابلس، ثم منح جنود الحملة، أحياء درنة كمـكافأة.

ولعل أعمق وأوسع امتزاج بين الليبيين كان إبان الحقبة الإيطالية حين هاجرت قبائل إلى تونس والجزائر ومصر لتعود بعد الحرب العالمية الثانية، وفي برقة هجر الإيطاليون قبائل الجبل الأخضر إلى معسكرات الموت في صحراء العقيلة، وبعد أسر وإعدام عمر المختار هاجر قرابة 80 ألف إلى صحراء مصر الغربية، ليعودوا بعد الحرب إلى مواطنهم، كما جـنـدت السلطة الاستعمارية ألوف الجنود، ولا نعرف كم منهم عاد إلى موطنه وكم منهم استقر حيث وجد مصدر رزق.

وللأسف لم تحظى هذه الهجرات بدراسة اجتماعية، وحديثا نستطيع أن نضيف مؤسسات مثل الجامعات والكشافة ، وهي محطات قادت كلها إلى صداقات ومصاهرات لا متناهية، ومنحت المجتمع الليبي خصوصية رائعـة وتماسكا يقاوم الـتأثير التفكيكي للسلاح والتدخل الخارجي وخطاب الكراهية والإعـلام المسمـوم !!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى