كتَـــــاب الموقع

لم تكن هنا يا محمد بويصير

سالم العوكلي

إن لم تخني الذاكرة في عام 2007 أو 2008 اتصل بي الصديق رجب الهنيد ليخبرني أن السيد محمد بويصير موجود في فندق المنارة ببلدة سوسة ويريد اللقاء بنا، وذهبت ورجب وأحمد بللو إلى سوسة وكان الصديق أحمد الفيتوري حاضرا، ومكثنا في الفندق يومين على حساب بويصير، ودار الحديث حول أمور كثيرة، حيث أخبرنا أنه قادم إلى ليبيا لإنجاز بعض المشاريع منها، استعادة أملاك العائلة المصادرة في بنغازي، والسعي مع سيف الإسلام بخصوص مشروع مدن كارتر حيث إنه يسعى لضم بلدة سوسة إلى هذا المشروع ولتتحول إحدى مدن كارتر، واذكر وقتها أني قلت: ما حكاية سوسة؟ اختارها القذافي لتكون نموذج لجماهيريته، ويختارها كارتر لتكون نموذج لجمهوريته، أما المشروع الآخر فكان بصدد تأسيس جريدة إلكترونية محترفة اختار لها اسم (البوسطا) وعرض علينا العمل معه، بعد أيام سافرت إلى بنغازي والتقينا به في أحد المباني التي استردها من الدولة حيث حول إحدى الشقق إلى مقر مفترض للجريدة، ووافقنا أنا والفيتوري للعمل في هذه الجريدة، الفيتوري رئيسا للتحرير وأنا مشرفا على الملف الثقافي، وكان المشروع من الضخامة بحيث عرض علينا أسماء بعض مراسليها في المغرب العربي وفي المشرق، كما أكد لنا أنه قد تحصل على ما قيمته ربع مليون دينار من الإعلانات، وأبلغنا أنه مسافر وسيعود بعد شهرين بعد أن عرض علينا تصاميم الجريدة التي أنجزها بعض الشبان الليبيين من بنغازي، مشيدا بإمكانات الشباب الليبي وقدراته رغم كل الظروف، ومؤكدا أن هذه التصاميم لا نحظى بمثلها حتى في الولايات المتحدة. كانت معنوياته مرتفعة ورفعت معها معنوياتنا باعتبار الفرصة في العمل في صحيفة حرة ومستقلة وخارج سيطرة الرقابة، وأبلغنا أنه مسافر إلى أمريكيا وسيعود بعد شهرين لنستأنف العمل، ولكن كما يقال بالليبي (هذي ساعة وهذيك ساعة) ولم يعد بعد تلك الزيارة، لأراه بعد فترة في قناة الحرة ينتقد الأوضاع في ليبيا، ويقول إنه سافر في سيارة على الطرق الليبية مسافة 800 كم ليكتشف بعد وصوله أن السيارة دون لوحات في إشارة إلى تهلهل الدولة في ليبيا وغياب القانون، وكان هذا حقيقيا ومؤشرا على غياب دولة القانون، والآن 80% من السيارات في ليبيا تتجول ومنذ 7 سنوات دون لوحات.

شاهدت السيد محمد بويصير الذي كانت تعجبني مداخلاته وتحليلاته السياسية الحاذقة واستفيد منها، في قناة الجزيرة وهو يهاجم الجيش الليبي بكل ضراوة، والمشكلة في مثل هذه الحالة يدافع عن واقع الميليشيات في طرابلس، لأنه وللأسف لا خيار ثالث سوى جيش مستورد أو قوة أممية، إما الجيش الذي تكون بقرار من مجلس النواب، السلطة الوحيدة المنتخبة الآن في ليبيا، وإما الميليشيات التي تأتمر بمسلحين مدنيين، بعضهم يتبع القاعدة أو الإسلام المسيس عموما، وبعضهم شبه أميين استفادوا من خبراتهم السابقة في الإجرام وكاريزما السيطرة والقدرة على شراء الشباب مقابل الأموال التي يتلقونها من إقطاعية قطر ومن محافظ البنك المركزي مقابل حمايته، كان بويصير يتحدث في قناة الجزيرة بينما تعرض الجزيرة في الشريط الأحمر أسفله عناوين كاذبة لما يحدث في ليبيا أو محرفة، تبث المزيد من الفتن داخل النسيج الليبي مثلما فعلت طيلة شهور حراك فبراير وبعده.

المهم كنت لفترة قريبة أعرف بويصير وهو يدافع عن الجيش الوطني ويهاجم الجماعات الإرهابية متأثرا بما فعلته في بنغازي مدينته التي بلا شك يحبها، وهي الجماعات نفسها التي لجأت إلى طرابلس وانخرطت في الميليشيات المؤدلجة الحاكمة هناك. لكن كي أفهم هذا الانقلاب في موقفه عدت إلى عقلية الصفقات التي اختبرتها شخصيا قبل 12 عاما تقريبا، ولأن بويصير الجمهوري متسق مع تكوينه البراغماتي انقلب 180 درجة لأسباب شخصية (مثلما انقلب نعمان بن عثمان، الذي كان لوقت قريب يتملق قيادة الجيش بشكل مزعج، وانقلب لأسباب شخصية جداً).

ضمن ما قاله السيد بويصير في هذه المداخلة التي تحدث فيها بلباقة كعادته أنه ضحية للحكم العسكري وأنه دخل سجون هذه المنظومة العام 1973 . وهذا حقيقي لأنه سجن مع صديقه رجب الهنيد (الذي اعتبره في إحدى مداخلاته الوطني الحقيقي) عندما كانا في اتحاد طلاب جامعة طرابلس ورفضا الخروج في مظاهرة مؤيدة للنقاط الخمس التي أعلنها القذافي في مدينة زوارة، إضافة لاحتجاج الطلاب على موقف السلطة الليبية الضعيف تجاه إسقاط إسرائيل للطائرة الليبية في سيناء والتي لقي فيها المناضل الوطني صالح مسعود بويصير، والد محمد بويصير، حتفه. في الواقع لم يمكث محمد بويصير في سجن الحكم العسكري الليبي سوى بضعة شهور حيث توسط له السيد ياسر عرفات الذي تربطه علاقة بوالده صالح بويصير، مؤلف كتاب “جهاد شعب فلسطين”.

خرج محمد بهذه الواسطة وذهب إلى الفردوس الأمريكي وترك رفيقه رجب الهنيد ليمكث في السجن بعده 15 عاما.

أود أن أقول لأخي محمد، لم تكن هنا حين كان ما يسمونهم مختطفو طرابلس وقنواتهم الثوار، وتدافع عنهم الآن، يقتلون نخبة مدينة درنة من قضاة ومحامين وأساتذة جامعة ومعهد عالي ونشطاء مجتمع مدني ومواقع تواصل، ولم تكن هنا حين كنت أقرأ كل يوم نعيا لصديق أو قريب تم اغتياله، ولم تكن هنا حين قتل هؤلاء الذين تدافع عنهم زوجة رفيقك رجب الهنيد (فريحة البركاوي) بعد أن استقالت من المؤتمر الوطني وكانت عضوة في اللجنة المالية ومطلعة على كم الفساد، مثلما اغتيل في زيارة إلى درنة النائب العام، عبد العزيز الحصادي، الذي تراكمت في مكتبه بطرابلس ملفات فساد المؤتمر الوطني وحكومته، ولم تكن هنا حين كانت هذه الجماعات تقصف أهلي في الأبرق ومطارها المدني بصواريخ الجراد، ولم تكن هنا حين فجروا مقهى ومطعم (بو جميلة) في مدينة القبة صباح إحدى الجمعات وتركوا فيها 50 مأتما لخيرة شبابها الذين احتشدوا لإنقاذ ضحايا التفجير الأول ففُجرت قربهم السيارة الثانية، ولم تكن هنا حين كانت تأتي كل يوم الجرافات التي تبعثها ميليشيات مصراتة وحكومة طرابلس إلى شواطئ بنغازي محملة بالسلاح والألغام والحقائب المتفجرة والإرهابيين، ولم تكن هنا حين استورد الإرهابي وكيل وزارة الدفاع، خالد الشريف، حقائب متفجرة كانت توضع في مطابخ ربات بيوت مدينتك بنغازي، ولم تكن هنا حين ذبح المواطن البسيط (الشرقاوي) أمام المسجد العتيق وقرب أطفال درنة، ولم تكن هنا حين كنت أتحسس رقبتي كل صباح لأن أي كاتب في عقيدة من تنحاز لهم كافر ويستحق الذبح، ولم تكن هنا حين كان يخرج أولادي ولا أعرف إن كانوا سيعودون أم لا، ولم تكن هنا حين كنت أكتب مقالة عن حرية التعبير ثم غيرتها إلى مقالة عن حرية الشهيق والزفير، إلى أن جاء الجيش الوطني أو سمه ما شئت (ميليشيات حفتر، جيش القبائل، رعاة الغنم ) ليضيق الحصار عليهم ويقضي على هذه الجماعات التكفيرية التابعة لسلطات طرابلس، والذين هرب بعضهم بدماء الأبرياء إلى طرابلس ليستقبلوا هناك كالأبطال وتجرى معهم الحوارات في قنوات الغرياني وبالحاج.

لم تكن هنا يا بويصير، ولأنك هناك، ستظل تتقلب في مواقفك وفق بوصلة الصفقات، وأؤكد هذا ليس عيبا حين ينتمي الشخص إلى بلاد الأحلام، بل ضروري للنجاح المهني، لكنه مؤذٍ لأهلك في ليبيا ومؤذٍ لمن قتلوا بالعشرات في غرغور وهم يطالبون بالجيش والشرطة، ومؤذٍ لأب أطفال الشرشاري الذي اختطف أولاده وقتلوا بدم بارد من قبل أتباع هذه الجماعات المسيطرة على طرابلس، ومؤذٍ لكل أم ثكلى ــ شئت أم أبيت، شئت أنا أم أبيت ـ أطلقت زغاريدها مع فتيان هذا الجيش وهم يأخذون حقها، الذين ضحوا بأرواحهم ألوفاً حتى لا تنتشر داعش وأخواتها في بقية المدن مثلما انتشرت في أكثر من نصف الأرض العراقية حين غاب الجيش عن المشهد بسبب الصراع الطائفي.

أنت هناك، ولا حسد، تتمتع بالجنسية الأمريكية التي يتمناها أي أحد، وتنتمي للحزب الجمهوري، فساعد ترامب في بناء سوره العظيم بينك وبين فقراء المكسيك ودع الليبيين في حالهم، فلا يحس بالنار إلا واطيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى