كتَـــــاب الموقع

لماذا هذا الصمت المطبق

علي عبد اللطيف احميدة

ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي

يتصدى هذا الكتاب* لمناقشة الفرضيات الاستعمارية، وتلك الوطنية، بغية فهم ثقافة وتاريخ الناس الذين زج بهم الاستعمار الإيطالي الفاشي في المعتقلات الجماعية. فلقد اختارت النخبة الملكية السنوسية (1951- 1969) التي سادت دولة مابعدالاستقلال الليبية بعد سنة 1951 تجاهل تاريخ الإبادة والتزمت الصمت حيال تاريخ المقاومة والاعتقال الجماعي برمته. وعلى الرغم من أن معمر القذافي، قائد الانقلاب العسكري القومي في 1969، استثمر موضوع المعتقلات الجماعية وتكلم عنها بصوت عال، فإن واقع المحفوظات [الأرشيف] يخبرنا بقصة أخرى مختلفة تاما. فحين استطلعت معرفة الجامعات الليبية بالتاريخ، وجدت أنها، هي الأخرى، تغاضت عن هذا. وكان الاستثناء بحثا عن التاريخ الشفهي جرى جمعه من قبل باحثين في “المركز الليبي للدراسات التاريخية” بعد سنة 1977. ولقد قادت ثلاثة أسئلة مركزية البحث المبدئي في هذه الدراسة: كيف تمكنت الدولة الإيطالية من إخفاء وحجب قصة أعمال هذه الإبادة، كيف يمكن لاكتشاف ناجين من هذه الإبادة كسر هذا الصمت، وأخيرا، ما الذي يخبرنا به فقد الذاكرة الجمعيcollective amnesia** والتاريخ الحي مجتمعين عن ليبيا وإيطاليا ويمدنا بمعلومات عن المعنى الأوسع المتعلق بعالم مابعد الإبادة post- genocide اليوم.

لقد صرت أدرك أن هذا التاريخ المخفي لم يكن خاصا فقط بالتوحش الاستعماري المحزن، ولكنه يتعلق أيضا بليبيا وإيطاليا، وقبل كل شيء، باكتشاف ثقافة شفهية خلاقة وحركانية dynamic. اكتشاف روايات وثقافة الناجين الأحياء صارت إسهامي الأكثر دلالة. فقبل هذا التقصي، كنت قد قررت تفحص التعليم الذي تلقيته في مدارس بلادي بعد استقلال ليبيا تفحصا نقديا. إعادة تفحص الذات هذا مكنني من اكتشاف وفهم الثقافة الجهوية للذين اعتقلوا، وكيف فسروا خبراتهم وردات فعلهم خلال سنوات الاعتقال وبعده بسنوات. لقد مكنني هذا من تفحص حالات الصمت وأشكال تقديم الكتابات التاريخية الاستعمارية والوطنية [للمسألة]، وتحديد موضع هذه الحالة المخفية، في سياق منظور مقارن عابر- للوطني أكثر اتساعا، وعلى وجه الخصوص انبثاق الصلات بين بحوث الإبادة الاستعمارية والمحرقة. وقبل كل شيء كانت لي فرصة مقابلة مئات الليبيين العاديين والاستماع إليهم وتبين عواطفهم ورؤيتهم للتاريخ الاستعماري، وللإنسانية.

ثقافة الداخل الليبي معروفة بحبها للشعر والتقاليد الشفاهية، فرواية الحكايات وتلاوة الأشعار والاستذكار تتخلل أنماط التواصل اليومي. إنها شكل معرفي وتعليمي مختلف، خصوصا بالنسبة إلى غالبية المعتقلين في المعتقلات الجماعية. العديد من هؤلاء كانوا أميين، عدد ضئيل منهم فقط كانوا متعلمين. وبالتالي فإن أكثر سجلات تاريخ الإبادة دلالة وحيوية تتمثل في الأشعار والحكايات الشفهية التي صيغت داخل المعتقلات. المشافهة والشعر أنماط ثقافية طُوعت لصالح مقاومة الاستعمار والإبقاء على ذكرى المعتقلات الجماعية حية، ولقد اعتمدت على هذه المصادر [= المنابع] لفهم رؤى ضحايا المعتقلات الجماعية واستيعاب ارتفاع نسبة الموت الجماعي في خمسة معتقلات من الستة عشر معتقلا.

* علي عبد اللطيف احميدة، الإبادة في ليبيا: شَرُّ التاريخ الاستعماري المسكوت عنه Genocide in Libya: Shar, a hidden colonial history، وعنوان النص المترجم هنا من وضع المترجم.

** تعني amnesia طبيا فقدانا جزئيا أو كليا للذاكرة. ونحن نرى أن الأمر هنا لا يتعلق بفقدان الذاكرة، وإنما بالتعتيم المتعمد على الأحداث وطمس آثارها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى