كتَـــــاب الموقع

لكل لصٍ أزلامه

سالم العوكلي

كثيرًا ما أتحاشى استخدام مفردة أو اصطلاح (الأزلام) بما شحنت به من حمولة سياسية واجتماعية أفضت في النهاية إلى نوع من التمييز الإقصاء، حين لم يفرق المصطلح بين من أجرم وبين من عمل في دولة النظام السابق، لكنها في النهاية مفردة وجدت في اللغة بكل حمولاتها التاريخية، وكل ما دخل اللغة يشكّل وصفًا لصورة أو واقعة أو ظاهرة. دون أن نغفل نزوات التلاعب باللغة ومفرداتها ومصطلحاتها من أجل تكريس مصالح ما.

في الأساس، تطلق هذه التسمية على من يقررون التخلي عن ذواتهم أو كيانهم والانتماء إلى أشخاص في السلطة يعبدونهم، أو يرون مصالحهم فيهم، أو لأي أسباب سيكولوجية أخرى، وتصبح المفردة اشد وطأة حين يكون الشخص مستبدًا أو مجرمًا وما يزال له أتباع حتى بعد نهايته، والأكثر وطأة حين يكون بعضهم ضحية لطغيان وإجرام هذا الشخص، مثل العبيد المملوكين الذين رفضوا عتقهم لأنهم لا يجيدون في الحياة مهنة سوى أن يكونوا عبيدًا، والأكثر أكثر وطأة أن هؤلاء العبيد جاهزون في أي وقت كي يكونوا قتلة وسفاحين ومعذِبِين.

نقلاً عن جين كولاتا؛ يقتبس نجيب الحصادي في كتابه (في الوعي الأخلاقي والعلمي) هذا المقطع المروع الذي يختزل هذه الظاهرة: “تستثير فكرة وجود بشر غير متمايزين اجتماعيا كوابيس مروعة. أشرطة الحرب الوثائقية الأكثر إرعابا ليست تلك التي تعرض أجساد الناجين الهزيلة أو السحب الفطرية فوق هيروشيما وناجازاكي، بل جموع الألمان الرافعين قبضاتهم هاتفين بالنصر للنازية. الأكثر ترويعًا هو سيكولوجيا الرعاع التي تجعل من الأفراد مجرد نسخ متماثلة، لا ترتاب فيما تقوم به السلطة وليست لديها آراء مستقلة. إنه مرتبط بخوفنا من الجماعات التي يسهل التلاعب بها ويمكن أن تصبح جموعا عاطلة عن التفكير وأن تُسخَّر أداةً للقمع.” انتهى الاقتباس الذي يؤكد أن التشابه القطيعي وعبادة الأشخاص تُسهل التلاعب بنا وتُحولنا إلى أدوات عمياء للقمع.. إنه الكابوس الأكثر رعبًا.

ما جعلني أعود إلى هذا الموضوع، وهذا الاصطلاح الذي كنت أتوجس منه؛ كون هذه الظاهرة التي تستدعي هذه المفردة مازالت مستمرة، وتتغير مع تغير الظروف والأشخاص دون أن تفقد بعدها المَرَضي المزمن.

مازال البعض أو الكثيرون ينسون كيانهم ووطنهم ومستقبل أولادهم ويتعلقون بأشخاص، يجعلون منهم البديل للوطن، بل يتلاشون فيهم ويفقدون حتى ذواتهم وكرامتهم، من باب الحاجة النفسية لزعيم أو كما يقال، مع التصرف، ذرا زعيم ولا ذرا حيطة، أو من باب تحقيق مصالح شخصية وآنية عبر الذوبان في هذا الشخص والتقاط ما يرميه من فتات أو عظام.

حين مدح شاعر طاغية يحتضر في أحد المهرجانات الشعرية، انفعلتُ وداخلتُ بما مفاده أن كل من يمدح طاغية يتملقه يسيء إلى الآلاف أو الملايين من ضحاياه، وإلى كل أم ثكلها أو طفل يتمه. ثم أدرفتُ: حين يتغزل رجل في رجل آخر لا يمكن أن أعتبره سوى نوع من الدعارة.

في القنوات الفضائية أو منصات التواصل او في المقاهي؛ أرى كل يومٍ المنافحين بضراوة عن أشخاص، بحسب مصالحهم، كل ما فعلوه أن أوصلوا البلد وسكانها إلى الهاوية.

فما الذي يجعل البعض يطبلون لهم؟ وما الذي يجعل ظاهرة (الأزلام) التي ارتبطت بنظم الاستبداد تنتقل معنا إلى مرحلة من المفترض أن نختار فيها مسؤولينا وأن نضعهم تحت وابل من النقد حينما يخونون الأمانة ويخونون من وضعوا الثقة فيهم.؟ ما الذي يجعل البعض يعبدون أشخاصًا تؤكد الوثائق اليومية أنهم مجرد انتهازيين ولصوص، لا يهمهم الوطن ولا مواطنيه، بل أصبحت تصبغ على بعضهم ألقاب من الفخامة واشتقاقاتها، لم تصبغ على قادة جعلوا دولهم ومجتمعاتهم في الطليعة، وفي المراتب الأولى في مؤشرات التنمية والنمو والسعادة، وظل أولئك القادة مجرد موظفين بالنسبة لشعوبهم لديهم صلاحيات محددة وفترة زمنية محددة، ويتعرضون للمساءلة والعزل ولو بسبب حجز تذكرة سفر بشكل غير قانوني، وحكومات تستقيل لو تسبب إهمالها في موت مواطن واحد.

عَبَدة الأشخاص؛ مثلهم مثل القُصَّر الذين يحتاجون إلى حاضن أو دار رعاية حين يفقدون آباءهم، لديهم حنين مرضي للماضي حتى ولو كان مجرد خرابة كانت تسمى تعسفًا دولة، وبمجرد أن ينتهي جلادهم؛ سيبحثون بشكل مَرَضي عن جلاد آخر يعيشون في ظله كمازوخيين نموذجيين.

من الطبيعي أن تنتمي لرؤية سياسية أو مشروع أو برنامج يحمله حزب أو شخص ترى أنه يحقق صلاحا للوطن، ومن الطبيعي حين ينحرف الحزب أو السلطة عن هذا المشروع أن تتصدى له بكل الأساليب السلمية؛ لكن التعصب العمياني لأشخاص لمجرد أنهم من جهتك أو قبيلتك أو شلتك أو طبقتك، نوع من التقمص والتخلي عن الذات وعن القناعات وعن الكرامة الشخصية، والأنكى من ذلك؛ التخلي عن الوطن برمته حين نعرف ونتأكد أن هؤلاء الأشخاص معول خراب حقيقي في هذا الوطن.

مرّت بنا حكومات عدة، بعضها كان يكذب، وبعضها وضع البنية التحتية للانقسام وللحروب، وبعضها لم يمارس سوى السرقة، وبشكل معلن، وبعضها جاء عبر الرشى والمال الفاسد، واستمر يدفع الرشى للناس كي يستمر في السلطة ويعوّض أضعاف ما دفعه كي يشتري منصب رئيس الحكومة، وليس مستغربًا في دولة عمتها الفوضى أن ينتشر الفساد فيها بهذا الشكل العلني، لكن المستغرب أن نجد من يهللون لهؤلاء اللصوص ويدافعون عنهم.

والنتيجة التي وصلنا إليها، للأسف؛ هي المفاضلة بين أولئك اللصوص، من هو أفضل لص حكم ليبيا، أو من هو أفضل لص ننتخبه، لأن الشرفاء بطبعهم يكرهون الضوء والمناصب، وكأن البلاد أصبحت حيًا تديره عصابات مافيا يفضل الناس من بينها الأقل بطشًا أو التي تؤمن الحي و تتصدق على فقرائه بالخبز.

وما حدث أن أصبح لكل طاغية أزلامه الذين يدافعون عنه بشراسة، ولكل لص أزلامه الذين يدفعون به للترشح لأعلى منصب، وكأننا قطيع من الماشية يتصارع حوله رعاة أجلاف أو سماسرة في سوق، أو كأننا حيوانات برية في أحراش يتقاسم فيها الصيادون مناطق نفوذهم مع الكلاب التي تركض خلفهم وأمامهم. وحين نكف عن أن نكون جماعات حضارية في أحزاب وطنية، أو في نقابات مهنية، أو منظمات مدنية، أو تظاهرات سلمية؛ فلن تتاح الفرصة إلا لمجموعات من الأزلام المتملقين لزعمائهم، كل مجموعة تطبل لشخصها، يتنابزون ويشتمون بعضهم البعض إذا ما تعرض شخص لأي نقد من عبيد شخص آخر، وما يتمخض عن كل ذلك نطاح ثيران في مزرعة يُحيلها إلى خراب، وللأسف هذه المزرعة هي وطننا الذي حلت محله عبادة الأشخاص منذ ذاك الانقلاب المشؤوم حتى هذه اللحظة.

أما الشرائح الناجية من هذا المجتمع، التي لا تعبد إلا خالقها؛ فما زالت للأسف تتفرج على هذه الكوميديا السوداء، عيونها مسلطة على هيئة الانتخابات، والهيئة عيونها مسلطة على مزاج الميليشيات، والميليشيات عيونها مسلطة على البنك المركزي، والبنك المركزي في يد الكبير، والكبير في يد الميليشيات، والميليشيات تدعمها السلطات السياسية، والسلطات السياسية عيونها مسلطة على المجتمع الدولي، والمجتمع الدولي عيونه مسلطة على الهلال النفطي، والهلال النفطي ريعه في البنك المركزي، ومع حكاية أم بسيسي هذه؛ يتوه المواطن وتلك الشرائح التي مازالت تنتظر الفرج، والفرج لن يأتي إلا حين نخرج إلى الشوارع والميادين أو ندخل في عصيان مدني، لأن الميزة الوحيدة في اللصوص أنهم جبناء وسَيهربون حين يروا حشودًا تتوعدهم، وميزة الأزلام أنهم يتخلون عن اللص حين يهرب.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى