مقالات مختارة

كيف أدى الانهيار المالي إلى صعود التكنولوجيا الفرنسية؟

باسكال غوبري

تظهر فرنسا على الصعيد الأوروبي كمركز من أبرز مراكز التكنولوجيا، وأصبح اعتماد التقنية الفرنسية أو «لا فرينش تك»، كما هو معروف، يبارز التكنولوجيا الألمانية وينافس التكنولوجيا البريطانية من حيث مستويات التمويل وتقييم الشركات. وهناك قطاع كبير من الشباب الفرنسي الموهوب تقنياً يرغب الآن في العمل في مجال الابتكار والإبداع التقني، بدلا من الوظائف المأمونة في الحكومة أو الصناعات التقليدية. ولا يرجع سبب هذا التحول إلى إيمانويل ماكرون، السياسي الإصلاحي الذي تولى رئاسة البلاد مؤخرا، بل إن الأمر سبق صعوده السياسي بفترة طويلة.

بدلا من ذلك، ترجع أصول الأمر إلى الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وفي أغلب البلدان، فإن فقاعة الإنترنت، رغم كل مساوئها المعروفة، تركت على الأقل البنية التحتية الجيدة مع جيل كامل من أصحاب المشروعات المخضرمين. وفي فرنسا، رغم كل شيء، كان اعتماد الإنترنت قد تأخر بسبب البديل الذي طرحته الحكومة الفرنسية وقتذاك والمعروف باسم «مينيتل». وساد المعتقد الخاطئ بأن الإنترنت ليس أكثر من بدعة مؤقتة بعد انفجار فقاعة «دوت – كوم»، مما ألحق كثيرا من الضرر بالاستثمار وريادة الأعمال في فرنسا.

ولم يكن من أحد يلحظ فرنسا على رادار التكنولوجيا في أوروبا، وظل الأمر بين لندن، مع الميزة الأصيلة للغة الإنجليزية التي سهلت انطلاقها إلى العالمية، وبرلين التي تعتبر قبلة عشاق التكنولوجيا والإلكترونيات في القارة العتيقة. بيد أن انهيار «ليمان براذرز» وتداعياته العالمية قد أثبت لشباب الخريجين الفرنسيين أن الرهان على مجالات ريادة الأعمال والابتكار التكنولوجي ليست مثيرة أو مجزية بحال، ولكنها في الواقع أقل مخاطرة من أغلب مسارات العمل التقليدية. ولقد كنت أحد شهود العيان على ذلك أثناء دراستي الجامعية في واحدة من أبرز كليات إدارة الأعمال الفرنسية في ذلك الوقت، إذ كنت أشاهد الزملاء تلو الزملاء يرفضون عروض الوظائف لدى الشركات الكبرى، سعياً وراء إنشاء الشركات الخاصة، حتى في خضم الانكماش الاقتصادي التاريخي الذي شهدته البلاد.

ومن الصعوبة الإقلال من شأن هذا التحول الثقافي المثير. وأولئك الذين درسوا قصص النجاح في وادي السيليكون الأميركي حاولوا مضاهاة الأمر في بلادهم، وبعد كل شيء، فهناك كثير من الأماكن التي تملك الموهبة والتمويل، ولكنهم فشلوا في استبدال العبقرية التقليدية مقابل الابتكار. فإن المزيج الفريد لثقافة وادي السيليكون من البراغماتية التي لا تهدأ في محاولة تجربة أشياء جديدة، والإعراض الصحي عن أساليب التفكير التقليدية، والشغف الشديد بالعمل لساعات طويلة يتعارض تماما مع النسخة المعتادة من مفهوم العمل الفرنسي التي تُقدر الأمن الوظيفي، وتحترم التراتبية الهرمية، وتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية. غير أن الجيل الجديد من رواد الأعمال الفرنسيين ينتمون إلى سلالة مختلفة تماماً.

لقد تحول وادي السيليكون إلى قوة دافعة تقنية على الصعيد العالمي بعد سنوات طويلة من العمل المستمر، مع الشركات الناشئة الكثيرة التي تلمست خطى هيوليت باكارد في السبعينات، وجذبت المواهب كثيرا من المواهب الأخرى. ويبدو أن فرنسا قد حازت قدرا من الزخم في الآونة الأخيرة. وفقا لبيانات شركة (سي بي إنسايتس) المعنية بأبحاث السوق، هناك 700 صفقة لمشروعات جديدة أبرمت في فرنسا خلال العام الحالي، 2017، مقارنة بنحو 251 صفقة فقط في عام 2015. ولدى فرنسا شركاتها الرائدة مثل شركة (كريتيو)، وهي الشركة التكنولوجية العاملة في صناعة الإعلانات التي تمنح شركة غوغل وغيرها من الشركات الفرصة لتشغيل أموالهم، وشركة (بلا بلا كار) لخدمات تأجير السيارات، التي تتوسع في أعمالها على الصعيد الدولي، بعدما أصبحت ظاهرة مثيرة للإعجاب في فرنسا.

وهناك شركات في الوقت الراهن تسعى إلى تحقيق نجاحات أخرى كبيرة. ويقف خافيير نيل، ملياردير التكنولوجيا الفرنسي الأكثر شهرة، وراء كثير من المبادرات التحولية، مثل مشروعات (كيما)، وهي من الصناديق الناشئة التي لفتت الأنظار مؤخرا، من خلال الاستثمار في مبالغ صغيرة من المال في الشركات الناشئة التي حققت نجاحات كبيرة للغاية. وهناك أيضا الكلية (42)، وهي من كليات الهندسة الابتكارية التي، على العكس من الكليات الفرنسية التقليدية، تركز بصورة حصرية على هندسة الحواسيب، وتجذب الطلاب من خلفيات دراسية غير تقليدية، ومشروع (ستيشن إف)، وهو عبارة عن حرم جامعي جديد وفخم للغاية، ويزعم أنه سوف يكون أكبر حاضن للمواهب في العالم.

وتعتبر فرنسا من أكثر البلدان استضافة لرواد الأعمال في هذه الأيام. وأصبحت سمعتها فيما يتعلق بالروتين الحكومي البغيض والضرائب المرهقة أقل استحقاقا من ذي قبل، إذ شهد العقد الماضي كثيرا من الإصلاحات الحقيقية. وكانت تلك الإصلاحات بطيئة، وتدريجية، وغير ملاحظة، غير أن تأثيرها التراكمي مهم للغاية. وقبل عشر سنوات، كانت محاولة التواصل مع أحدهم بشأن الضرائب يستلزم جمع عدد لا يُحصى من النماذج الورقية، والوقوف لساعات طويلة أمام مكتب الضرائب. ولكن اليوم، يمكن لأي مواطن الدخول على حسابه الشخصي لدى وزارة المالية الفرنسة، وإرسال بريد إلكتروني، والحصول على الرد خلال يوم واحد على الأكثر. وأصبح دمج الأعمال التجارية أقل مللا مما كان عليه الأمر. ومن شأن الكثير والكثير من هذه التغييرات الصغيرة أن تضاف إلى ما يمكن وصفه بالتحول الأكثر أهمية في الإصلاحات الحكومية الكبيرة.

ولم تتوقف الحكومة الفرنسية عن التدخل، رغم كل شيء، وكانت خطواتها لتشجيع الاستثمار في الشركات الابتكارية من النعم العظيمة. ولكن كانت هناك، رغم ذلك، نجاحات جديرة بالذكر والملاحظة، مثل صناديق رؤوس الأموال الاستثمارية ذات المميزات الضريبية، التي أفسحت المجال عندما هرعت مصادر التمويل الأخرى للاحتماء في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وأصبح بنك الاستثمار العام الفرنسي، على النقيض من جميع الاحتمالات، أحد اللاعبين الفاعلين للغاية في النظام الإيكولوجي الجديد. وبعيدا عن الانخراط في السياسات الصناعية، صار بنك الاستثمار العام الفرنسي في أغلب الأحيان من الجهات المستثمرة اللاحقة، مما يعزز من تأثير رؤوس الأموال الخاصة، بدلا من عرقلتها عن طريق استخدام الفائزين والخاسرين، وهي الوصفة التي تماثل صناديق المشروعات العامة التي كانت تعتبر أساسية في معجزة الشركات الناشئة في إسرائيل، ولا سيما في مرحلة البناء وبدء التنفيذ الخاصة بها.

وعلى الرغم من خلفيته التقليدية باعتباره من نخبة المتعلمين البيروقراطيين الذين تحولوا إلى الاستثمار مؤخرا، يفضل السيد ماكرون ربط نفسه بثقافة المال والأعمال الفرنسية الريادية الجديدة. ويشعر رواد التكنولوجيا ورجال الأعمال، من جانبهم، بالسرور لذلك الاهتمام من جانب السيد ماكرون. إذ إن إصلاحاته، الهادفة إلى تخفيض وتبسيط الضرائب المرهقة على الشركات، وإضفاء المزيد من المرونة على سوق العمل، ينبغي أن تصب في صالح «لا فرنيش تك»، ولكن فقط في حالة إيلاء الأمر حقه بما فيه الكفاية.

قبل الأزمة المالية، كانت فرنسا تملك بالفعل اثنين من الأصول الأساسية لإقامة مركز تكنولوجي رئيسي: البنية التحتية الممتازة والجامعات المرموقة. وهناك في فرنسا الآن بيئة تنظيمية أفضل من ذي قبل، ولقد أيقظت الروح العنفوانية لدى رجال ورواد الأعمال. بيد أن النظام الإيكولوجي التقني لا يزال يعاني من الهشاشة، فأغلب الاستثمارات تأتي من الشركات والمستثمرين الأجانب، الذين يتراجعون إذا ما وقع انكماش عالمي، أو إذا أثبتت فرنسا عدم مقدرتها على الإصلاح. وإذا ما نفدت أموال الاستثمار في وقت قريب للغاية، فلن تكون «لا فرنش تك» إلا مجرد بدعة تقنية. ولكن إذا استمرت الاستثمارات في التدفق، فإن كثيرا من الأفكار القديمة عن فرنسا سوف تكون في حاجة إلى التحديث.

– بالاتفاق مع «بلومبيرغ»

………………………

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى