خاص 218كتَـــــاب الموقع

كورونيل 69 وفكر الأوبئة

سالم العوكلي

مع الحديث الذي يدور الآن حول إمكانية التعليم في المنزل بعد انتشار وباء كورونا، يظهر بعض المصابين بمتلازمة كوبنهاجن للحديث عن قائدهم الملهم الذي سبق وأن تحدث عن منزلية التعليم الابتدائي باعتباره القائد المفكر السابق لعصره. لكن، في حقيقة الأمر، لا يعود هذا السبق الفكري لأي نوع من العبقرية ولا التفرد، وكل ما في الأمر أن ذاك الفكر كان يناسب مناخ الأوبئة، وينتعش في ظل الخوف والذعر، ومنذ أن ظهر (كولونيل) أو كورنيل 69 المستجد عبر ذاك الانقلاب المشؤوم دخلت البلاد طقوس عزلة وذعر تشبه حال العالم في هذا الوقت، بل أن ما حصل طيلة العقود التي أعقبت إعلان سلطة الشعب يشبه إلى حد كبير الإجراءات التي تتخذ في حالة تفشي وباء: منع التجمعات والتظاهر، قفل المحال التجارية والمقاهي والمجازر ودور السينما، إلغاء الأقسام الداخلية عبر تفتيت الجامعات، إلى أن وصلنا فترة الحصار إلى قفل المطارات والموانئ وتقييد السفر والحركة، وتوزيع السلع عبر أكياس مغلقة، وتوجس المواطن من المواطن الذي بجانبه، ووضع كمامات غير مرئية على الأفواه تمنع الكلام والتعبير، إلى أن وصل الأمر إلى التهديد الدائم بأن قطار الموت قادم، وأن ليبيا ما عادت تصلح للعيش وكل من يرغب في النزوح منها ستوفر له الدولة مبلغا ماليا يبدأ به حياته في منفاه الأفريقي بعيدا عن بؤرة تفشي الوباء الأيديولوجي، ومن ضمن هذه الإجراءات التحفظية كانت الدعوة إلى منزلية التعليم الابتدائي في مجتمع مازال الكثير فيه من الآباء والأمهات أميين، ورغم التحايل على هذه الرغبة المجنونة إلا أن تطبيقها غير المباشر أوقف بناء المدارس منذ العام 1980، وأحيل تلاميذ الابتدائي للذهاب إلى المدارس فترة الظهر، وأصبح المعلمون يتثاءبون في الفصول في مجتمع يقدس نوم القيلولة، ودفعت أجيال ثمن قلة الفصول الدراسية بسبب هذيان حاكم مخبول، وبالتالي لم يكن غريبا أن نجد طلابا في الجامعات لا يجيدون الكتابة أو القراءة، بعد تكدس الطلاب في فصول ما بعد الظهر، وتبني نظام الترحيل، وتفشي الغش في الامتحانات وتسربها الممنهج.

وصاحَب هذا الانحدار في التعليم تدهور في الخدمات الصحية جعل الليبيين طوابير للعلاج في مصر وتونس والأردن، ومن لا يستطيع السفر وقع في قبضة المشعوذين أو الطب الشعبي المتخلف، وفي مرحلة ما كانت الحقن في مستشفياتنا تستخدم أكثر من مرة، وعاش الليبيون لعقدين أو أكثر في حالة (حجر غير صحي)، ومع تفشي فيروس الفساد بشكل أفقي في جميع أنحاء الوطن، استغله سماسرة الجوائح، وظهرت طبقة من أغنياء الصفقات والسمسرة تتلاعب بقوت المجتمع، وهؤلاء المستفيدون من هذا الوباء هم الذين مازالوا يمارسون طقوس الحنين لتلك المرحلة الرديئة ولقائدهم الذي أطلق أيديهم في قمع المجتمع وسرقة مقدراته. غير أن اللقاح منه لم يكتشف بعد، لأن عدواه متفشية ومازالت فيروسات شبيهة تخرج علينا وتثير الخوف والرعب بين الناس، ومازال الفساد على أشده، وربما أكثر فسادا، وهؤلاء الحاملون السلبيون لذاك الفيروس هم من تصدروا المشهد وجعلوا الموت مستمرا، والتوجس والخوف قائما حتى بعد أن تخلصنا من الفيروس الأصلي.

المصابون بمس من القائد المجنون والمعتنقو حكمة (ذرا طاغية ولا ذرا حيطة) يعتبرون الفضل يعود له حين لم تسجل حالة إصابة بفيروس كورونا، وربما في قرارة أنفسهم يعتبرون عدم حدوث زلزال في ليبيا بسبب تثبيت قايدهم للصفائح الجيولوجية تحت جبال البلد، وعدم حدوث تسونامي بسبب مشروعه الاستراتيجي في تحصين الساحل، وعدم مرور العواصف بليبيا بسبب البنية التحتية التي وضعها لتوزيع المنخفضات والمرتفعات الجوية في الغلاف الليبي.

فهم لا يجدون ما يسعف حنينهم في تاريخه الحقيقي فيضطرون إلى البحث عن عزائهم في الخرافات التي يحيطونه بها.

وفي المحصلة: لقد استلم قائدهم هذه البلاد على طبق من الذهب وتركها بعد 42 عاما حفرة من الرمال المتحركة وأرضا قاحلة، عطل فيها القانون والإدارة في نقاطه الخمس، ودمر فيها المؤسسات في نزوعه الطبيعي للفوضى، وزرع فيها ألغام الفتنة في كل مكان كي تنفجر بعده.

وماذا بعد 40 عاما من ضخ النفط وتحويل وطن برمته إلى معمل لاختبار الأفكار المجنونة:

ورثنا بلدا دون بنية تحتية، كل ما فيه متهالك حتى قبل أن تدمره الحرب: المطارات، والطرق ووسائل المواصلات، وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا مدارس بنيت أو جامعات طيلة ثلاثة عقود، ومرتبات التكنوقراط التي كانت تتأخر لشهور بالكاد تكفي الحصول على القوت اليومي لمدة أسبوع من الشهر، بينما الليبيون طوابير على مستشفيات مصر وتونس والأردن، وفتحت الحدود لوباء تلك المرحلة المرعب الأيدز كي يغزو مستشفى الأطفال في بنغازي، ويصيب المئات منهم في جريمة إنسانية لم تفك شفرتها حتى الآن، وأحاط بها الغموض مثلما أحاط بكثير من جرائم هذا النظام وهو يطبق فكر الأوبئة.

في خطاب لقايدهم، في إحدى دول أفريقيا، قال للحاضرين ما مفاده: يجب أن تفرحوا بالأوبئة وبالإيبولا والأيدز والكوليرا لأنها تبعد عنكم الغرب والاستعمار، وظهر وجه امرأة تضحك على الشاشة لكنها ابتلعت ضحكتها بسرعة حين اكتشفت أن الكلام جاد وليس نكتة وحين بدأ بعض مريديه وطباليه بالهتاف: زيد تحدى زيد .. وهذا الوسواس المرضي من الاستعمار ومن المؤامرات الداخلية والخارجية هو الذي تحكم في طبيعة حكمه طيلة هذه العقود.

بعد 4 عقود من ضخ النفط وضخ الأفكار، خرجنا بميراث من العداء والتوجس مع كل العالم، وكل ليبي يحط في مطار دولة يتعرض لتفتيش خاص كأنه مصاب بفيروس وفق جنسيته على جواز السفر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى