خاص 218كتَـــــاب الموقع

كتاب “دولة الخيمة” سرد يتسع للجميع

سالم العوكلي

التاريخ أحيانا يكتبه الأقوياء من منظورهم وأحيانا الضعفاء في سِيَر حياتهم، يكتبه العراف أو السياف، مدونو الجلاد أو ضحاياه، وفي الأحوال جميعها ستكون الانتقائية منهجه في التدوين، أو ما تمليه نزعة تصفية الحساب من قبل ضحاياه أو تصفية الوقائع من الشوائب لتنظيف مسرح الجريمة. لكن حين يقترب منه مراقب من خارج هذه الدوائر سيختلف السرد هنا، وحين يكون هذا المراقب الفطن قادما من عالم الأدب الواسع والقابل لتعدد الأصوات والحياد حيال الشخوص، يمزج سيرته مع سيرة الزمن في المكان، ستغدو الوقائع التاريخية حين تلحق بسياقاتها خلفية لكتابة سرد من نوع آخر. لطالما كُتِب تاريخ هذه الحقبة بلغة مذكرات الاتهام أو بلغة وثائق المبايعة، ويسعى كتاب “دولة الخيمة” لاختراق هذا المدوِّن منه بخطاب يسعى لأنسنة التاريخ واستنطاق المسكوت عنه فيه، ولأن أحداث التاريخ سطور، والقراءة ما بين السطور تعني التأويل، فقراءة ما بين الأحداث والوقائع هي غاية هذا السرد وهو يبني دراما شاملة شارك في إنتاجها الجميع كل بطريقته، فيتحول محركو التاريخ الذين يدورون حول بطل واحد شبيهين بالشخصيات الروائية، وتفسر الحواشي المهملة روح المتن، والأهم من ذلك الربط بين ما حدث هنا وبين أطروحات كونية يُراد محاكاتها، أو وضع التاريخ الجزئي في سياق التاريخ الكلي، ومثلما يخضع أبطال الرواية لقدر السرد، فإن أبطال التاريخ يخضعون غالبا للتاريخ نفسه كقدر أعمى، وفي عمق هذه الجدلية بين أنسنة التاريخ وأرخنة الإنسان يغوص الكتاب.
يقول ميلان كونديرا في كتابه “لقاء” وفي صدد تحليله لرؤية تولستوي الروائية لروح التاريخ ومنطقه: “يجادل تولوستوي ضد الفكرة القائلة بأن التاريخ تصنعه إرادة الشخصيات الفاعلة وعقلها. حسب رأيه، التاريخ يصنع نفسه بنفسه، خاضعا لقوانينه الخاصة التي تبقى مع ذلك مبهمة للإنسان. فالشخصيات الفاعلة هي أدوات لاواعية للتاريخ، تنجز عملاً يظل معناه خفياً عليها، وليس لدى أي واحد منهم أدنى فكرة عنها، سواء نابليون أو الإسكندر أو حتى أي شخص فاعل أدنى منهما، ليصل في النهاية إلى استنتاج يختزل تعريفه للتاريخ بكونه الحياة اللاواعية، العامة، الجماعية للجنس البشري..”.

يرى تولستوي، حسب قراءة كونديرا، سلطة التاريخ كقدر ميتافيزيقي، وبغض النظر عن دقة هذه الرؤية، إلا أن كون المحركين المباشرين للوقائع التاريخية هم في الواقع أدوات لاواعية، لا يخلو من حصافة تتعلق بالطبيعة العشوائية للأحداث حين تخرج عن سيطرة المخطَّط له، ولا يعود هذا الرضوخ لقوى غامضة تٌسيّر الشخصيات إلى ما يسمى بنظرية المؤامرة ، لكنه يتعلق بطبيعة الانفلات العقلي الذي يدير الوقائع، خصوصا في الأوقات الكثيفة للتاريخ.

حين بدأ الربيع العربي في تونس ثم مصر وبعد تنحي أحد الحكام، بدأ القذافي الاجتماع بشرائح من الليبيين، ومن ضمنهم الفعاليات الشعبية التي طالما راهن على تحكمها في أفراد قبائلها أو مدنها. اختار الشيخ علي بوهليّل العبيدي أن يذهب مع وفد فعاليات درنة وليس قبيلته، وأمام القذافي طلب كلمة قال ضمنها: “يامعمر رواقك الغربي انقشع ورواقك الشرقي انقشع وافطن لروحك وافطن للبلاد”، وفي وقتها كانت نصيحة من ذهب لكنها أغضبت نرجسية القذافي ورد عليه بحدة. لكن ما يعنيني منها هنا هو تشبيه البلد كلها بالخيمة، وحين تنقشع أروقة الخيمة فستحملها أول ريح، والخيمة مؤشر للترحل واللااستقرار وللأطلال التي تتراكم خلفها. وهذا العنوان الدقيق الذي أختاره مجاهد البوسيفبي لكتابه هو لب الحكاية.

حين حدثني يوما الصديق مجاهد عن مشروعه الذي تفرغ له تماما، وعن تقصيه وبحثه في الأرشيف وذاكرة الشهود عما يخدم هذا المشروع (والمؤلف نفسه شاهد)، كنت أدرك أنه سينجز عملا لافتا، بحكم معرفتي السابقة بمجاهد، ولطريقته في الكتابة النثرية والمقالة السردية خصوصا التي طالما تميزت بقدر وافر من سلاسة السرد، والحياد حتى وإن كانت عن سيرة شخصية له.

أخبرني أن ما يسعى لكتابته ليس تاريخا ولا فكرا، لكنه أقرب إلى الريبورتاج الصحفي، غير اني وأنا أقرأ هذا المؤلَّف المهم، أجد نفسي أمام كتاب فكري تأملي عميق، ينأى عن الفكر النظري المجرد بقدر ما يقترب من تأويل الأحداث والوقائع التي شكلت في النهاية مآل هذا الجزء من العالم، مثلما شكلت شخصية (بطل) الرواية نفسه. كنت اقرأ أحداث أعرفها وأتذكر معظمها جيدا، لكن الجديد كان وضعها في سياق تأملي حاذق يبني جدار تتصادم عليه المصائر، وتحويلها إلى رواية تحاول أن تفهم وتيرة هذا التصاعد الدرامي على خشبة مسرح كان مشرعا لكل أحد كي يأخذ دوره، فكل ليبي من الممكن أن يجد نفسه في مكان ما في هذا السرد، سواء أكان حَواريا أو مريدا مرتبطا بالنظام أو مستفيدا أو معارضا أو غاضبا وكفى أو متفرجا. ويتضح من خطاب هذا الكتاب أنه لا يسعى لتصفية حساب ولا لإتهام أحد، ولا لأنْ يضع القذافي في دور الشرير المطلق كما في أي رواية تطهرية، لكنه ابتعد كفاية لمحاولة فهمه من خلال فهم كل ما أحاط به من أشخاص أثروا فيه أو اشخاص عبدوه، أو أشخاص رسموا له الطريق، وترك الأحكام معلقة وفق ما يراه القارئ.

حين يفرد المؤلف فصلا تحت عنوان “سنوات البراءة” يحاول أن يعيد للمدونة التاريخية بعدها الإنساني الذي عادة لا تقبض عليه سوى الرواية التي تسمى رواية تاريخية، وهي البراءة التي تقترب من السذاجة التي استغلها رجل محنك قادم من ثورة سابقة ملأ ضجيجها الوجدان العربي، فتحي الديب، الذي وضع قطار القذافي على السكة نحو الانفراد بالسلطة. هذه البراءة التي يقتنصها الكتاب كانت تلوح في أحاديث شخصيات من مجلس قيادة الثورة أو من تشكيل الضباط الوحدويين الأحرار، كنا أجرينا معهم حوارات لجريدة ميادين العام 2011 ، عبدالفتاح يونس، عبدالمنعم الهوني، عوض حمزة، وكلهم يتفقون على أنهم كانوا يرون في القذافي ملاكا اهداه الله إلى الليبيين، بل قال أحدهم: كنا حين نراه نائما نقول “كم أنت محظوظة يا ليبيا بهذا الملاك”. وبعد سنوات عدة انقلب ذاك التصور حتى لدى اقرب الناس إليه، لكن مجاهد لا يعمل هنا على لعبة النقائض ولا الرؤية العاطفية التي تختزل الإنسان في حُكم أو وصف واحد وقاطع، فكل إنسان هو مركب معقد من التضادات التي تتصارع داخله ومن سيرة حياة طويلة شكلته، ووظيفة السلطة دائما أن تكثف هذا المحتوى إلى أقصى درجاته. لم يشيطن القذافي لكنه حلل تلك الآليات ــ الشبيهة بالعمليات الكيميائية التي تمزج العناصر في بوتقة ــ التي تصنع الدكتاتور وفق مبدأ الجدلية الرائج في كون السلطة تشكل شخصية المتسلط في الآن الذي يعتقد أنه من يشكلها، ليتحول إلى “أداة لاواعية للتاريخ”، وحين يتحول القذافي إلى حاكم منفرد أو دكتاتور أو طاغية، كما يوصف عادة، فثمة عوامل كثيرة أسهمت في هذا المآل، أهمها الجماهير نفسها الماخوذة بعمى غنائي بفكرة الزعيم المخلص، وبالتالي يذهب هذا الكتاب إلى فحص آليات تشكل الطغيان، الذي سيستمر طالما كل ما يصنعه ويغذيه مستمرا. أو إنه باختصار يفحص من خلال هذا السرد الطريقة التي يُصنع بها الطغاة، وكيف يتحول ما سماه الرفاق ملاكا هابطا من السماء إلى سفاح نابت من الأرض. (سفاح من عندي ولم يستخدمها المؤلف في الكتاب الذي علق فيه الأحكام).
لم يطرح مجاهد نفسه كمؤرخ أو ككاتب سيرة، ورغم عنوان الكتاب الجانبي “سيرة القذافي السياسية” إلا أنه تصدى كقاريء لأحداث حاول قدر المستطاع أن يتأكد من دقتها وأن يستجوبها كي تبوح بمكنوناتها، والبحث عن زلات تاريخية لا يعني شيئا في مثل هذه الكتابة لأن الالتباس في واقعةٍ أو اسمٍ لن يؤثر في مسار التحليل ولا المآلات المعني بها الكتاب. التاريخ مثل الأرض المشاع التي لا حارس لها، وكل من يسبق يحرثها، ثم يأتي آخر ليحرث فوق حرثه، لذلك لا يمكن لأحد أن يدعي أنه حارس له أو في حوزته الحقيقة، وعن هذه المتاهة والتقليب المستمر لتربة التاريخ ينأى هذا الكتاب ليتخذ من وقائع، نذكرها جيدا، فعلت فعلها في حياة شعب وجغرافيا، مدخلا للتفكير في ما وراء الوقائع ومراودة مفاهيم مثل: الثورة التي لا تتوقف وما تلده من ثورات من بطنها، والسلطة حين تكون شغفا وأداة للفتك بكل من يهدد التلذذ بها، وعلاقة المثقف بالسلطة، والطغيان ومن يصنعه وكيف يدافع عن نفسه، واللعب بسيكولوجية الجموع، وتحلل منظومات الاستبداد حين تتعفن وتعجز عن التأقلم، ولعبة الدين كأداة لغزو وجدان الجموع.
وسأضرب مثلا عن النبش في كتابٍ عن زلات تاريخية تتعلق بتقويم أو اسم أو مكان حدث ما، ما يؤدي بالانحراف عن مقصده النهائي، بما يشبه محاضرا يحلل جرائم قاتل متسلسل، فيقول كانت الضحية الثالثة ترتدي قميصا أصفرَ وملقاةً فوق العشب بعد ان تلقت 10 طعنات، فيعلق أحدهم قائلا بل الضحية كانت ترتدي قميصا برتقاليا والمكان لا عشب فيه وتلقت ثمانية طعنات فقط. وبالتالي ينقل الحوار صوب هذه التفاصيل التي لا تغير شيئا من واقع الجثث التي تتكدس، أو بما يشبه التشكيك التقني في الأدلة أو عدم كفايتها من أجل تبرئة المجرم.
رغم حرص المؤلف على أن يدقق في تفاصيل كثيرة، وأن يرسم خلفية بيوغرافية للشخصية المراد تفككيها، لكن كل من تعامل مع هذا الكتاب ككتاب تأريخ سوف يبتعد عن فحواه ومقصده عبر تصيد بعض الزلات التاريخية، فالمؤلف لا يؤرخ ولا ويوثق، وكل ما ذُكر من أحداث هو في الواقع موثق، بل أن الكثير من الجرائم وثقتها وسائل السلطة الإعلامية نفسها حين كان المراد الترهيب أو الدعاية، كما أن كتب ومقالات كثيرة دُبجت عن هذه المرحلة بما فيها كتب سيرة، لكنها كانت تهتم بجزء من الحكاية أو بما حدث في مجال محدد ومعزول، وغاية هذا الكتاب أن يضفر كل هذه المسارات والحكايات المتناثرة في سردية واحدة متشابكة ومتضافرة، ومؤثرة في بعضها البعض، وتتضح هذه المسارات في العناوين الداخلية للكتاب، وبمعنى آخر، وضع هذه التروس المنفصلة في آلة واحدة ضخمة تتحرك في الوقت نفسه وتُطبِق بضجيجها على كل الفضاء في ورشة عمل صاخبة لا تهدأ.
ثمة مؤرخ سياسي سيكتب عن القذافي، ومؤرخ أفكار سيكتب عن الصادق النيهوم، لكن المزج بينهما كان أحد أهم فصول هذا الكتاب حيث تبادلت هاتان الشخصيتان، كل من موقعه، التأثر والتأثير عبر علاقة حذرة لم تتوقف رغم توجس كلاهما من الآخر، فلا يمكن معرفة رجل الخيمة ــ الذي وصفه مريدوه بالمفكر والمعلم والملهم ــ إلا عبر معرفة مصادر إلهامه ماو وكاسترو والنيهوم والديب وناصر وصدام، ومعرفة حاشيته ممن يختصرون له الكتب، ومن البحاث في التاريخ أو المشتغلين في حقل الفكر، ونماذج أخرى مبهرة من التاريخ كانت تتزاحم في مخيلته، ليتحول في النهاية إلى كشكول ثوري المشطوب فيه أكثر من الموضوع تحته خط، وكان البوسيفي كمثقف وقارئ جيد للتاريخ يدرك أن وراء هذه الشخصية تعقيدا هائلا في النشأة والتربية والتعلم، ووراء هذه المرحلة شبكة متداخلة من المسارات ومن المجموعات ومن الانقلابات الذاتية، وليس كما يروج البعض أن شخصا واحدا وحيدا فعل كل شيء.
حين التقى محمد حسنين هيكل بالقذافي في مارس 1999 ، بعد قطيعة سنوات بين ليبيا ومصر، كتب هيكل مقالة عن ذاك اللقاء، تطرق فيها لبعض ذكرياته مع القذافي في الأيام الأولى من حكمه، وأشار لأول مرة لانطباعه الخاص عن اللقاء الأول (في زمن البراءة كما وصفه مجاهد) الذي لخصه هيكل في ما مفاده، أن هذا الشخص البريء حد السذاجة لن يبقى في الحكم أكثر من ثلاث سنوات، ولكن بقاءه ثلاثين سنة يشي بأن معجزة ما حدثت. ويتساءل: لا أعرف ما الذي حدث؟ ولعل هذا الكتاب يجيب عن ذاك السؤال الذي ترُك مشرعا من قبل صحفي محترف تعود أن لا يترك خلفه أسئلة شاغرة. ولكي يجاب عنه كان من الضروري أن يَعزل القذافي عن أي أحكام مسبقة أو ضغينة كامنة أو عواطف أو مشاعر، ويتعامل معه كرجل يمثل جزءا من تاريخ ليبيا وصانعا لجزء من هذا التاريخ في الوقت نفسه، ما له وما عليه، وإن كان ما عليه هو الغالب فهذا ينطبق على كل الأشخاص الشبيهين به في التاريخ او المتشبه بهم.
كثير من الأسئلة التي أثيرت أثناء العقد الذي تلى سقوط النظام أو انقشاع “دولة الخيمة”. أسئلة تتعلق بأسباب ما استشرى من نزاعات واستقطابات وانقسامات بعد نهاية نظام كنا نعتقد أنه السبب في كل هذا الارتباك، وبمجرد نهايته سيمضي كل شي على ما يرام، وأسئلة تتعلق بالحرب الأهلية ومن أين جاءت لهذا المجتمع الذي طالما وصفه المتفائلون بالنسيج الواحد، أو تتعلق بخطاب الكراهية الذي انفجر فجأة في طول الوطن وعرضه، وبالفساد الذي بدا وكأنه يملك خبرة طويلة وبنى تحتية وثقافة حاضنة، وأسئلة ملحة عن غياب النخب والكفاءات وارتباك فكرة الانتماء لهذا الكيان، وعن الطغيان الذي بدأ يعيد إنتاج نفسه رغم استئصال هذا النظام ورغم التشريعات المحتاطة. وكان الجواب الجاهز والمختزل: كل هذا من تداعيات النظام السابق ثم نقطة. لكن هذا الكتاب يفكك هذه الإجابة الجاهزة، محاولا أن يتقصى المناطق التي ترتع منها هذه الأسئلة المقلقة، ويستجوبها ليعرف من أين بدأت الأزمة التي نحن الآن فيها ونراوح داخلها غير قادرين على الخروج منها، لقد كانت أربعة عقود من العمل المثابر المصروف عليه بسخاء، ومن الأفكار الشاطحة، والثورات التي تتوالد من بعضها، والتجريف الشامل لكل من يعلن عن أختلافه أو كل محاولة نقد ذاتي أو تشكيل مجموعة خارج التيار الجارف، وكيف تم بدهاء تفريغ المسرح تماما والشروع في إقامة عرض جديد يستوعب نصا جديدا كان يُكتب طيلة العرض بما يشبه الكتابة الركحية التي تتفاعل مع كل متغير وتتكيف مع كل طارئ، وفي المحصلة حين نقارن ثورتنا بثورات الربيع الأخرى، نقول عادة أن ليبيا مختلفة، فهي دون مؤسسات، ودون قوى سياسية فاعلة، ودون مجتمع مدني عميق، ودون حتى دولة بمفهوم الدولة التقليدي. والكتاب يسرد الحكاية التي جعلت ليبيا مختلفة، وأن لب الحكاية كان الشغل طيلة عقود وبمثابرة على “التحول من الدولة إلى الثورة” فالدولة لها شروط والتزامات ومطالب أخلاقية مزعجة لحاكم مطلق لا يريد أي تشويش على مونولوجه السياسي، بينما الثورة تعتمد على المونولوج والوجد والهيجان والارتجال والترحل الدائم في دولةٍ خيمة، وهذا ما كان يناسبه تماما.
حين زار كاسترو إحدى رفيقاته وهي تحتضر في المستشفى بعد قطيعة حدثت بينهما، قالت له عبارة مهمة: الثورة التي لا تتوقف تسقط. وهكذا ظلت “الثورة المستمرة” لازمة في كل أوراق قرطاسية الإدارة الجماهيرية بعبارة تُختم بها كل رسالة أو وثيقة رسمية أو برقية توجه إلى القائد ” الفاتح أبدا والكفاح الثوري مستمر” نعم لقد كانت أربعة عقود من الكفاح الثوري. كفاح ضد من وما غايته ؟ لا أحد يعرف، وكان الأمر أشبه بحرب مع الطواحين، لكن دونكيشوت في هذه الحالة يؤثر في حياة المجتمع اليومية بشكل يومي، والطواحين غالبا ما تنزف دما، كما يبين سرد الكتاب وهو يتتبع كل خواطر القايد وتجلياته التي تتحول مباشرة إلى هتافات، ثم قوانين، ثم إجراءات وميزانيات كلها تصب في رغبة تحكم رأس النظام في خيوط اللعبة كدكتاتور متملص من المسؤولية يدخل من باب الفوضوية السياسية، وما اختلفت به هذه الديكتاتورية على جاراتها من الدكتاتوريات، أن الحاكم كانت له كل الصلاحيات المطلقة وفي الوقت نفسه متجرد من أي مسؤولية عما يترتب عنها من أخطاء وكوارث غالبا ما يُحمِّل مسؤوليتها للناس الذين أقروا كل شيء في مؤتمراتهم الشعبية.
إنه كتاب مهم ــ لم استخدم اقتباسات منه لأنه سردية متماسكة لابد أن تقرأ دفعة واحدة ــ بقدر ما يجعلنا نتوقف عن الرضوخ للأحكام المسبقة حين يكون الأمر متعلقا بمرحلة شكلت ثلثي عمر الدولة الوطنية حتى العام 2011، بقدر ما لا يتخلي مؤلفه القادم من عالم الأدب والصحافة عن الامتاع بهذا السرد السلس والذكي لمرحلة نحتاج إلى فحصها وليس إلى محوها من الذاكرة أو إقصائها من مدونة التاريخ الليبي. ومثلما قال هيكل حين فوجيء بالإجابة عن سؤاله عن عبدالعزيز الشلحي ــ الذي كان يعتقد أنه الزعيم الجديد ــ بأنه في السجن، فقال فورا: كان لازم يحصل كده. فهل كان من الضروري أن يحصل ما حصل؟ وهل يتسع التاريخ لأداة التمني (لو)؟ هذا ما يمكن ان نخرج به من إجابات مقترحة بعد قراءة كتاب “دولة الخيمة” التي تحولت مع الوقت إلى (خيمة الدولة)، وفي المجمل كان محاولة لقشع الضباب المحيط بشخصيات ووقائع تلك الحقبة، لكي يتاح لنا أن ننظر أطول مسافة ممكنة في الماضي وفي الراهن وفي المستقبل أيضا.
فالشخصيات التي تصنع التاريخ كما يحلو لها، يصنعها التاريخ بدوره كما يريد، حين تتحول إلى أدوات لاواعية له، وكأن قدرا أرضيا يسوق الجميع، أو كما يقول كونديرا: “تتقدم هذه الشخصيات في حياتها وهي لا تعرف معنى التاريخ أو مساره المستقبلي، ولا تعرف حتى المعنى الموضوعي لأفعالها، مثلما يتقدم شخص في الضباب. أقول ضباباً وليس ظلمة. في الظلمة، لا يرى المرء شيئاً، فهو أعمى وتحت رحمتها وليس حراً. أما في الضباب فهو حر لكنها حرية الشخص الذي يوجد في الضباب: يرى على مسافة خمسين متراً أمامه، ويستطيع أن يميز بوضوح ملامح محدثه وبوسعه أن يستمتع بجمال الأشجار المنتصبة على طرفي الطريق”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى