اخترنا لككتَـــــاب الموقع

كانت بلادا يقودها قوادون وأصبحت يقودها الفاسدون

سالم العوكلي

“الكلب ما يحب إلا خانقه” . يبرز هذا المثل الشعبي أمامي كلما قرأت أو سمعت كلاما يمجد حقبة النظام السابق، أو يعبر عن حنين لرأس ذلك النظام الذي بعد عقود من الأداء المسرحي المشبع بشخصيات التاريخ المأزومة استسلم للخارج وترك الداخل خرابة بكل معنى الكلمة . فبعد أربعة عقود من ضخ النفط بملايين البراميل يوميا وبأسعار فلكية نجد في النهاية أننا في أرض من غير بنى تحتية ومن غير نظام خدمي ، مع تعليم منهار وفساد مستشرئ وخدمات صحية أسوأ من خدمات السجون في العشوائيات المسماة دول العالم الثالث.

بغض النظر عن الدولة الخرابة التي تركها القذافي وزبانيته خلفهم ، وعن ارتمائه في حضن من تشدق بمعاداتهم ودفعنا الثمن الكبير من خطاباته النارية تجاههم إلى أن انتهى الأمر بتسليم المشروع النووي مجانا لأمريكا، ذلك المشروع الذي كلف خزانتنا عشرات المليارات للعدو الأول طيلة عقود، بغض النظر عن انهيار المؤسسات وغياب القانون وعن الأقبية التي ماتت فيها النخب الليبية بصمت، فإن المرأة كانت الضحية الأكبر لهذه المرحلة ، وحتى شعارات تحرير المرأة والدفع بها للأماكن المتقدمة أو المناصب الوهمية كان مجرد سبيل لأن تصل النساء إلى مخادع باب العزيزية في حالة المحظيات، أوغرف الزبانية الآخرين التي تتحول إلى مكب قمامة باب العزيزية من النساء اللائي يُبصقن مثل العلكة الممضوغة التي زالت حلاوتها . وما عدا النساء العصاميات اللائي فرضن أنفسهن عن جدارة واستطعن الدفاع عن أنفسهن بقوة إلا أن شعارات تحرير المرأة كانت من أجل هذه الغاية ، المثابات الثورية والدورات العقائدية وكليات البنات العسكرية والحرس الثوري كلها تحولت إلى أماكن تجمع لاصطياد الإناث وذبحهن بإراداتهن أو دون إرادة، ولم تنجُ من هذه الكمائن سوى من اكتشفت الخديعة ومن قررت الانسحاب أو الدفاع عن شرفها.

لم تكن تلك المواخير المرخصة سرا، وكان الجميع يسمع بأخبار الاستدراج والاغتصاب وحالات تلفيق التهم أو القتل أحيانا لمن رفضن الانصياع لشهوات السلطة، والأرشيف مملوء بآلاف الحكايا التي يندى لها الجبين، وحين خرجت هذه الحكايات إلى الضوء أو خرج بعضها، لم تُحدث أي ضجة لأنها كانت تحصيل حاصل ومعروفة لدى الجميع، وحين ظهر القبو تحت جامعة طرابلس الذي كانت تقام فيه عمليات الإجهاض وترقيع البكارات من أجل إعادة دمج الضحايا من العلكة الممضوغة في المجتمع، لم يحدث دويا هائلا لأن الجميع كان يعرف ذلك، لدرجة أن من لديهم فتيات جميلات كانوا يمنعوهن من الدخول إلى الجامعة، أو الظهور في العلن لأن الوحوش متربصة، وإذا ما زار الطاغية الفحل المأزوم مدرسة ثانوية للبنات كان الآباء يخلبون بطونهم خوفا على بناتهم من أن تكون فرائس الوحش.

أما معظم الزبانية المحيطين به، والمستعدين لتلبية رغباته بإشارة، أولئك الذين كانوا يخيفون الناس بجبروتهم، ويتلاعبون بالملايين، ويتنقلون في فنادق العالم الفخمة، فقد كانوا مجرد قوادين لسيدهم ، وكنا أيضا نعرف ذلك ونعرفهم بالاسم ، وتأكد بالكثير من السير التي كتبت أو الروايات أو مواقع وكتب فضائح القذافي التي ظهرت ، واعني تلك الكتب أو المقالات أو الاستطلاعات التي قام بها صحفيون محترفون في صحف أو وسائل إعلام تحترم مهنيتها، ورغم ذلك لم يأبه الجميع لأن تلك الفضائح المتسربة كانت حديث الليبيين في جلساتهم الخاصة، بل أن رواية (حفلة التيس) للروائي البيروني ، ماريو فارغاس يوسا، كانت تنتقل من يد إلى يد وكأن بطلها الطاغية الليبي، وهي ترصد تاريخ طاغية الدومينيكان تروخيو السفاح الذي كان يرسل بعض وزرائه في مهمات وهمية خارج البلد كي ينفرد بنسائهم وفي أَسرَّتهم.

فمَن مِن الممكن أن يحن إلى مثل هذا الزمن إلا من كان في خانة هذه الخدمات؟ لأنه لو كان للقذافي مشروع أو أقام دولة ببنىً تحتية أو استمر في مواجهته لأمريكا التي استسلم لها أو إسرائيل التي اعترف أخيرا بدولتها، وأرسل إليها الحجيج، وأقفل مكاتب المنظمات الفلسطينية في طرابلس، وتبرأ من انتمائه القومي، لو كان له رؤية أو موقف ثابت أو قضية يدافع عنها غير دعمه للحركات الإرهابية في العالم، لوجدنا حجة لمن مازالوا يتحدثون عن القذافي وزمنه أو يحتفلون بأيامه السوداء على الشعب، ولقدرنا أنهم يمثلون رأيا مختلفا أو استمرارا لمشروع آخر مهما اختلفنا معه (فوجود الناصريين مازال مقبولا ويحترم) لأنه مهما اختلفنا معه كان له مشروع، وكان على قدر كبير من الأخلاق على المستوى الشخصي، فحتى من حاولوا تشويه مرحلته لم يجدوا في تاريخه فسادا شخصيا له أو لعائلته أو استخداما قذرا للنساء، وحتى هتلر السفاح عُرف عنه القدر الكبير من الاحترام الذي يعامل به نساءه.

عذري لكل هؤلاء لا يتجاوز الإطار النفسي الكلينيكي الذي يحتاج إلى علاج، ولا يتعدى حكاية من تعرض لاغتصاب وهو صغير فتحول الجرح في داخله إلى استسلام للمغتصب وتماهٍ معه يصل أحيانا لدرجة الحنين ، بل ويتعداه إلى الظاهرة الكاليوغلية (نسبة إلى سفاح النساء كاليغولا) التي فسر المختصون المدافعين عنه؛ حتى من ضحاياه، بكونهم في غمرة تطهر ذاتي لأنهم يدركون أنهم يشبهونه والدفاع عنه هو في اللاوعي دفاع عن أنفسهم.

عمل في كوادر النظام السابق الكثير من الشرفاء والوطنيين الذي سعوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحين انتهى النظام لم يعبر أحدهم عن حنينه إليه؛ بل بعضهم كتب شهادة تشكل ضمنيا نوعا من الاعتذار لليبيين ، لكن من مازالوا يحنون للقذافي هم قوادوه وبعضهم من ضحايا هوسه، وهم من كانوا متحكمين في كل شي، وبعد أن خسروا هذا النفوذ وحظوة خدمة الغرف المغلقة أصبحوا لا يملكون إلا أن يمارسوا طقوس التطهر بماء الحنين الملوث إلى أسوأ زمن مرت به ليبيا. وهم قلة ، لكنها قلة تملك أرصدة كبيرة في بنوك في الخارج مما سرقوه من أموالنا طيلة عقود الاستبداد والانتهاك والفساد.

خرجت البلد من هذا النفق فاستلمها الفاسدون الذين تربوا في أكاديمية الفساد السابقة التي خرّجت أجيالا من مختلسي المال العام والخاص، الحكومة المؤقتة وحكومة الوفاق، نموذجان لهيآت الفساد الغبي المستهزيء بنا مثلما أكدت تقارير هيآت الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة وتقارير البعثة الأممية ، وإذا يتحجج البعض بأنه لا وقت لنشر الغسيل لأننا في حرب مع الإرهاب، فإن هذا الفساد حصد من الأرواح الليبية أكثر مما حصد الإرهاب ، فدواعش المال العام أكثر خطرا من دواعش الذبح والتفجير، ويبدو أنه ــ مثلما استطاعت المؤسسة العسكرية في الجزائر والسودان القبض على الفاسدين وإيداعهم السجن بتأييد شعبي منقطع النظير ــ فلا حل سوى أن تفعل المؤسسة العسكرية هذا في ليبيا، وسيؤيدها الملايين من ضحايا هذا الفساد بعد أن عجزت الهيآت المدنية في مواجهتها لهذه العصابات المنظمة.  ورغم كل شيء فبلد كان فيها ــ حقبة النظام السابق الذي يشجع على الفساد ــ أشخاص مثل عبدالعاطي العبيدي وجادالله عزوز الطلحي حافظوا على نظافة أيديهم في قلب جماهيرية الفساد ، وفيها الآن رجل مثل عبدالسلام الحاسي لم يخش في الحق لومة لائم، ستظل تنجب الوطنيين والنزهاء (وهذه الأسماء على سبيل المثال وليس الحصر) وسيأتي دور أمثالهم من النساء النزيهات والرجال لبناء الدولة التي نحلم بها.

يقول مؤسس دولة سنغافورا الحديثة، رئيس وزرائها السابق: لي كوان يو : “كان لدي خياران: إما أن أمارس السرقة وأدخل أسرتي في قائمة فوربس أغنياء العالم وأترك شعبي في العراء، أو أن أخدم وطني وشعبي وأدخل بلدي في قائمة أفضل عشر دول اقتصادية في العالم.، وأنا اخترت الخيار الثاني.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى