حياة

قصيبات عن ترجمة ألف ليلة وليلة: كلفت الإنسانية الكثير من العنصرية


خاص 218| خلود الفلاح

محمد قصيبات مترجم وشاعر ليبي، صدر له ديوان شعري بعنوان ” الأعمى” ترجم إلى اللغة الإنجليزية. يعيش في فرنسا حيث يعمل طبيبا يختص بأمراض القلب، يؤمن بأن هناك علاقة وطيدة بين الطب والإبداع. فالطب هو أقل المجالات العلمية موضوعية، في الطب أيضًا كثير من التأمل والتفكير، بحسب رأيه.

يترجم الشعر منذ أربعين عاما. يقرأ دوما بعين المترجم، حيث تحقق له ترجمة الشعر متعة كبيرة.

في هذا الحوار يتحدث المترجم محمد قصيبات عن ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية ويصفها أسوأ ترجمة في التاريخ، وعن طقوسه لحظة الترجمة، وكيف يمكن علاج مرضى الزهايمر بقراءة الشعر.

ـ هل هناك ترجمة سيئة وأخرى جيدة؟

ـ بالطبع. هناك ترجمة تهبط بالنص وتشوهه وأخرى ترتقي به إلى عالم الخلود. إليك مثلا وهو رواية “آلام الشاب فيرتير” للألماني غوته والتي كانت نسختها المترجمة إلى الفرنسية أجمل بكثير من النص الأصل وذلك بشهادة غوته نفسه. كتب غوته روايته هذه وهو في الخامسة والعشرين لكن الترجمة هي التي صنعت لغة شهرته وارتقت بنصه.

لم يكن غوته راضيا عن روايته لأنها صنفت من المدرسة الرومانسية فأعاد نسخة أخرى بأسلوب كلاسيكي وترك الشاعر الألماني الرومانسية إلى ألماني آخر هو نوفاليس.

يقول بعض المؤرخين أن غوته تخلى عن الرومانسية بسبب الثورة الفرنسية ويقول آخرون بسبب دخوله الإسلام.

أما أسوأ ترجمة في التاريخ (من وجهة نظري) فهي ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية التي قام بها الفرنسي أنطوان غالاند. تلك الترجمة كلفت الإنسانية الكثير من العنصرية حيث أن المترجم لم يعتبر النص مجرد حكايات بل اعتبره كتابا في “علم الأنثروبولوجيا” وقال إنه يدرس عادات وتقاليد العرب، والعرب يحتاجون إلى قرون أخرى لإصلاح صورتهم والخروج من نمط الرجل الشرقي كما في الحكايات. ثم أضاف غالاند حكايات من عنده واخترع شخصية شهرزاد التي لم يكن لها وجود.

يقول بعض النقاد إن شهرزاد هي في الواقع كاتبة فرنسية تدعى ماري كاثرين دو لونوا كانت تروي حكايات على نحو رمزي تتعلق بالقصر الملكي والذي كلفها ذلك هروبا أنقذها من المقصلة. لم تقدر الكاتبة على الحكي عما يحدث في القصر فاتخذت شخصية شهرزاد لتتمكن من التغيير، ولقد اخترع المترجم غالاند قصصا من عنده وهي قصص تشكل العمود الفقري للحكايات وأشهرها “حكاية علي بابا والأربعون حرامي” و”الفانوس السحري” وكذلك “السندباد البحري”. وهي حكايات ليست عربية على الإطلاق.

قال النقاد هذه هي أول مرة في التاريخ يولد النص الأصل من ترجمة حيث أن ما يتناوله العرب الآن من حكايات ألف ليلة هي ترجمات وصلتهم من الغرب.

ــ هل من الضروري أن يكون المترجم ملما بقواعد اللغة العربية ومحسناتها البديعية؟

ـ لا شك، لكن ليس بالضرورة أن نكون ملمين بأسرار اللغة التي يترجم منها ليكون النص جميلا

إلا إذا كنا من دعاة المترجمين الذين يتبعون طريقة الترجمة التي تنادي بالإخلاص للنص الأصل ومن هؤلاء امبيرتو إيكو، الذي يقول: “نحن لا ننقل من كلمة إلى كلمة بل من عالم إلى عالم” وهو لا يكتفي بالمعنى المباشر للكلمة بل بالتأويل، بالمقابل هناك المدرسة التي تدعو إلى شيء من الحرية لمصلحة النص في اللغة المُترجم إليها. بورخيس هو من أتباع هذا الصف.

أفضل أن تكون ترجمة الرواية على طريقة إيكو والشعر على طريقة بورخيس. والطب يؤكد أننا في وقت الترجمة تبذل منطقة اللغة المترجم إليها بالدماغ جهدا أكبر من منطقة اللغة المترجم منها. أي أن الترجمة هي قبل كل شيء شأن اللغة الأم.

ـ بابلو نيرودا، ماشادو، لوكليزيو: لماذا هذا الاهتمام من جانبك بالترجمة لهؤلاء الكُتاب؟

ـ لم أعرف الشاعر نيرودا إلا بعد مقتله أثناء انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973، في البداية لم أقرأ شعره بل قرأت كتابا عن رحلاته عبر العالم يحمل عنوان (وحشة مضيئة)، أما شعره فاطلعت عليه بعد دراستي للإسبانية في غرناطة في الثمانينيات من القرن الماضي، وهناك اكتشفت ماشادو ثم شعر نيرودا. في الواقع ما شدني في شعر ماشادو هو روحه الأندلسية وأترجم لهذين الشاعرين منذ أكثر من ثلاثين عاما. ولأني لا أتقن الإسبانية استعنت بالترجمات الإنجليزية والفرنسية ولي مخطوطان واحد للشاعر ماشادو والآخر مختارات من الشعر الإسباني لكني لم أنشرهما بعد في كتاب مثل مخطوطاتي الأخرى. لأني أعتقد أن الكتاب هو مقبرة النص، إذ أنك تفقد الصلة بالنصوص بعد نشرها في كتاب.

جمال الكتابة من وجهة نظري هو ذلك التواصل مع النص الذي ينمو معنا ويسافر معنا.

أما الروائي لوكليزيو فقد عرفته قبل أن يتحصل على جائزة نوبل بسنوات بحكم اهتمامي بالأدب الفرنسي عامة ومنذ أكثر من أربعين عاما. لقد عُرف لوكليزيو بلغته الصافية النقية والتي لا تنتمي إلى حضارة معينة ومنحت نوبل للوكليزيو لهذا السبب وكذلك لشاعرية اللغة التي يكتب بها، ولبحثه عن إنسانية قابعة خارج الحضارة المسيطرة. وهو كاتب يسهل ترجمة أعماله بعكس كاتب فرنسي آخر حاصل على نوبل لكن لا يعرفه إلا القليل من الفرنسيين وهو كلود سيمون، أغلب من أعرف من أصدقاء عرب أو أجانب لم يسمعوا بهذا الاسم من قبل، نوبل لا تمنح عادة بسبب شهرة كُتابها ولكن بسبب لغتهم المميزة. وأجمل ما ترجمت للوكليزيو هي الصفحات الأولى من رواية (الصحراء) وكذلك نص قصير بعنوان (طفل السحاب)، و(الغريب فوق الأرض)، و(تحت المطر) وهي نصوص نشرت في مجلات وصحف عربية.

هنا أعود للقول إنك كلما تمكنت من لغة كلما أصبحت الترجمة منها أكثر صعوبة لأنك تحاول أن يكون النص في لغتك أكثر قوة. لهذا أفضل الترجمة عن الإنجليزية.

ـ ما هو العمل الذي ندمت على ترجمته؟

ـ لم أندم على أي من ترجماتي. فآلاف الصفحات المترجمة خلال الخمسين عاما الماضية كانت كلها من اختياري واستمتعت بكل سطر كتبته إذ إني لم أقبل بترجمة عمل طُلب مني. أنا أقرأ دوما بعين المترجم، فإذا شدني نص بقي معي ولا أقدر على مقاومة ترجمته. الترجمة متعة.

_ هل لديك طقوس خاصة لحظة الترجمة؟

ـ مثل كل كاتب لابد من طقوس نتقدم بها في العمل الأدبي. أقرأ كثيرا وأقرأ دوما بعين المترجم إذا عجبني عمل ما شعرا كان أو نثرا أسجل النقاط الأولى. وأترجم أحيانا ما يعجبني من النص وأتركه للزمن. أعود للنص أحيانا بعد أشهر أو سنوات ويكبر هذا النص معي، وعندما يتطور العمل ويأخذ شكلا أكثر دقة أعود إليه وهنا أنسى ما كتب الشاعر وأكون مع اللغة العربية وجها لوجه فيتطور العمل بعيدا عن النص الأصل لكن يبقى مخلصا له لا زيادة ولا نقصان ولكن أحاول أن يجد النص ثوبا جميلا في لغة جميلة وهي لغتنا العربية.

_ نص واحد وترجمات متعددة. أقصد هناك أعمال لها أكثر من ترجمة. هل يعني ذلك غياب

سياسة ذات برنامج منظم في نشر الكتاب المترجم؟

ـ لا أعتقد أن تعدد الترجمات يضر بالنص حيث إن كل ترجمة تختلف عن الأخرى. ولو عدت لـ”غوته” أقول إن رواية آلام الشاب فيرتر سنجد أنها ترجمت إلى الفرنسية سبع عشرة مرة في العام نفسه. والآن يحدث أن أقرأ ترجمتين لرواية واحدة لمقارنة النصين المترجمين.

ـ هل تتفق مع الشاعر خورخي لويس بورخيس بضرورة التمييز بين ترجمة النثر وترجمة الشعر؟

ـ بورخيس هو من دعاة الحرية في الترجمة خاصة في حالة الشعر ويرى ضرورة أن يكون

المترجم شاعرا وأن تكون له حرية الإبداع في اللغة المنقول إليها وهو عندما أراد أن يترجم شعره إلى الإنجليزية استعان بفريقين من المترجمين الفريق الأول يترجم من الإسبانية إلى الإنجليزية وفريق آخر من الأمريكيين ليست لهم معرفة باللغة الإسبانية وهم من يقومون بالصياغة النهائية للعمل.

ـ هل تعتقد أن هناك علاقة بين الجنون كمرض والكتابة؟ وما رأيك بما حدث للكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف والشاعر اللبناني خليل حاوي مع الجنون والانتحار؟

ـ بعض الدراسات السويدية وأخرى أمريكية تحدثت عن علاقة الجنون بالإبداع عند الشاعرات

كانت النتيجة أن أكثر من 80 ٪ كن يعانين من الاكتئاب لكن هذه الدراسات لم تعتمد إلا على الإحصائيات ولا دليل علمي على صحتها لكن الاكتشافات العلمية الحديثة تقول غير ذلك وتؤكد الصحة العقلية للكُتاب. الإبداع السليم في العقل السليم وما قيل عن كتُاب مثل غوته هيمنجواي اللذين كانا مصابين بمرض نفسي رأى الباحثون أنهما كانا يبدعان أثناء الهدوء العقلي، وكذلك الحال مع فيرجينيا وولف والتي كانت تعاني من مرض فقدان الشهية العصبي فكانت تكتب بين الحين والحين لكنها أنهت حياتها في حالة من اليأس، عن حاوي ليس لدي التشخيص الطبي لحالته لكنه كان رجلا ذا شخصيتين، عرف بضحكته الرنانة وكذلك حزنه وانطوائه، لكن ما قتل حاوي هي آلام الحرب التي لم يتحملها.

ـ إذا كان الطب مجالا يتعلق بالموضوعي المحسوس والأدب يتعلق بالتأمل والتفكير. فما الذي يجمع بينهما من واقع اهتمامك بهذه المسألة؟

ـ الطب هو أقرب المجالات العلمية إلى الأدب وأغلب المجددين في الأدب هم من الأطباء والقائمة تطول لو حاولنا حصر هؤلاء يمكن ذكر أطباء لهم شهرة كبيرة في الأدب مثل الفرنسي فرنسوا روبليه الذي يعد أول الكُتاب الفرنسيين، ولوي فردينان سيلين الذي جدد الرواية الفرنسية واعتبره النقاد من قام بالثورة الأدبية وحازت أعماله على أكبر قدر من الترجمات إلى اللغات الأخرى بعد بروست. هو صاحب الرواية المعروفة رحلة في قلب الليل. لهذا الطبيب لغة خاصة به. سيلين شن هجوما على القراء الذين يستمتعون بقراءة الروايات الكلاسيكية التي كتبت بلغة محنطة على حد قوله وهو الذي فتح أبواب الرواية الفرنسية الحديثة، ويمكن ذكر أنطون تشيكوف الذي كتب أثناء مزاولته للطب أكثر من 600 عمل أدبي وفي أمريكا يمكن أن نذكر وليامس جيمس وليامس. وفي بريطانيا هناك الشاعر الطبيب جون كيتس، والكاتب سومرست موم. ومن الشعراء الفرنسيين شاعر عمل طبيبا في تونس وله أعمال شعرية كثيرة حصلت على جائزة كونكور وهو الدكتور لوراند جاسبار وكان مترجما أيضا لريلكه وسيفيريس اليوناني. وطبعا لا ننسى قافلة من الكُتاب العرب كانوا أطباء منهم مصطفى محمود ويوسف إدريس وعلاء الأسواني وصاحب الأطلال إبراهيم ناجي وغيرهم.

يمكن القول إن الجديد في الغرب هو العلاج بالكتاب حيث صار من الممكن قراءة الشعر لمرضى ألزهايمر لتأخير علامات المرض وفي بعض المستشفيات القريبة مني يقرؤون بعض النصوص لمرضى العناية. وقد يكون الشخص في حالة من الإغماء حيث وجد الأطباء أن القراءة تساعد على شفاء هؤلاء المرضى بطريقة أسرع. وفي أمريكا هناك جمعية العلاج بالشعر. لقد أصبح الكتاب من الدواء، وهذا الأمر ليس جديدا في الواقع فلقد عرف العرب ومنذ أكثر من ألف عام العلاج بسماع خرير الماء وكذلك العلاج بالقرآن وهذا الأمر ليس عندنا بغريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى