كتَـــــاب الموقع

قصتان

اندلاق الحليب

عمر أبوالقاسم الككلي

وهي عائدة بقدح حليب الصبوح بين يديها، يتبعها ظلها الطويل مهتزا مع تمايد قامتها الفارعة، يتقافز ذهنها بين المواضيع والانشغالات كما اتفق، أبصرت، حين رفعت رأسها، فرسانًا يمتطون خيولا خابَّة، يقتربون منها، وسرعان ما وقعت عليها الظلال وتوقفوا أمامها. رفست الخيول الأرض وهي تزفر لاهثة. حياها أحد الفرسان الثلاثة:

– صباح الخير.

استشعرت قلقًا وترددًا. كانت نظراته مرتبكة وملامحه عابسة حذرة.

– صباح الخير.

ردت من خلال هواجسها المثارة.

– أظنك عفراء.

قال الرجل.

– نعم.

قالت. ثم كسرت برهة الصمت المريب:

– تفضلوا بالنزول.

– شكرًا. متعجلون.

قال الرجل الذي يبدو أنه قد أخذ على عاتقه عبء الكلام. ثم أردف:

– والله يا عفراء ما كنا وجوه سوء، وما رغبنا أن نكون غربان بين وأن نعكر صفوك في هذا الصبح العليل، ولكن لا ينبغي التقاعس عن الواجب. ولا يمكن إخفاء المصائب.

قالت في صوت مرتعش:

– ما الأمر؟.

– خبر سيء يا أختاه.

قالت مطمئنة نفسها:

– على الحي تقبل نوائب الزمان.

قال وهو يشد عنان جواده استعدادًا للانطلاق:

– عروة يا عفراء، أدركه ما لابد أنه مدركنا جميعًا، عاجلاً أو آجلاً. تجلدي يا أختاه.

ثم لوى عنان فرسه وهمزها، وفعل رفيقاه مثله ماضين لا يلوون على شيء.

لعلها لم تسمع الرجال يستحثون خيولهم التي شرعت تخب على الأرض اللامبالية، لكن عينيها الذاهلتين الغائمتين كانتا تتلقيان أشباح الخيول والفرسان على ظهرها تهتز مبتعدة، وظل فمها فاغرًا ويداها مفتوحتين أمامها، بعد أن وقع منهما القدح وانتشر ما اندلق من الحليب، الذي امتصته الأرض، من بخار متصاعد من الرغوة الطرية. ووجدت نفسها، فجأة، تنطلق راكضة خلفهم صائحة:

ألا أيها الركب المخبون ويحكم… بحق نعيتم عروة بن حزامِ!!

اعتذار

ظهرت المهاري راكضة، من بين التلال الرملية البعيدة، تنهب المسافة وراكبوها يستقرون على ظهورها. الظلال تنبسط وتتمدد والشمس تنحدر نحو قوس الأفق، والهواء يرق.

وصلت المهاري حيث الحشد المنتظر. لم يكن العدد كبيرًا. لعله كان خمسة.

أخذ المهري الذي كان آخر الواصلين يصدر حنينًا متصلاً. تقدمت منه سيدة شابة واحتوت وجهه بين راحتيها وأخذت تمسد عليه. كان في حنينه عبرة ونبرة اعتذار وشكوى، استشعرتها السيدة. كانت تواسيه وتسري عنه من خلال ملاطفة وجهه ورأسه، كأنها تريد أن تقول له: لا تهتم بالأمر. نحن لسنا غاضبين منك..

ثم تبرز، برازه سائل، وليس بعرًا. فكأنه عبّر، بذلك، عن أنه مريض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى