مقالات مختارة

قصة رئيسين

رئيس يودع بخطاب مؤثر وبليغ ألقاه في مدينته شيكاغو احتفل فيه بإنجازاته وحذّر البلاد من الأخطار الداخلية التي تهدد نظامها الديموقراطي، ورئيس جديد عقد مؤتمرا صحفيا في مدينته نيويورك سرعان ما تحول إلى سيرك صاخب عندما هاجم وسائل الإعلام وقارن تصرف أجهزة الاستخبارات الأميركية بتصرف السلطات النازية.
الفرق بين باراك أوباما الراحل من البيت الأبيض ودونالد ترامب القادم إليه، لم يكن صارخا كما كان بينهما في هاتين المناسبتين اللتين عكستا مدى وعمق الاستقطاب السياسي والإيديولوجي وحتى الاجتماعي بين الرئيسين ومؤيديهما. وخلال 24 ساعة شهد الأميركيون مشاهد متقطعة ومتلاحقة بسرعة كبيرة وإشارات رمزية تبادلها الرئيسان من مدينتين، وأظهرت المزايا الشخصية لكليهما.
أوباما كان في محيطه الطبيعي. جمهور كبير وودي، يشعر بالأسف لنهاية ولايته الدستورية، وجاء ليودعه وداعا عائليا ويعلن تضامنه معه، بعد انتخابات مضنية انتهت بهزيمة المرشحة التي عمل أوباما بجهد لانتخابها خلفا له. الرئيس المنتخب ترامب كان في برجه الذي يقطنه منذ سنوات عديدة، وبهذا المعنى كان في محيطه الطبيعي. ولكن ترامب في الواقع كان أمام أكثر من 250 مراسلا أميركيا وأجنبيا جاؤوا ليطرحوا عليه أسئلة صعبة ومشككة يعتقد هو أنها عدائية. أوباما كان وفاقيا ومتفائلا حتى عندما كان ينبه الأميركيين من المحاولات الهادفة إلى تفريقهم والتمييز فيما بينهم من خلال القول إن بعضهم أميركي أكثر من غيره. الرئيس المنتخب ترامب بدأ مؤتمره الصحفي باعتماد الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع، ووجه انتقادات قاسية إلى أجهزة الاستخبارات الأميركية التي حملها مسؤولية تسريب تقرير أعده خصومه السياسيون خلال السنة الماضية تضمن ادعاءات غير مؤكدة تفيد بأن روسيا لديها معلومات وأشرطة مصورة تظهر ترامب في أوضاع محرجة ومشينة.
غضب ترامب وصل إلى حد مقارنة أجهزة الاستخبارات، التي يفترض أن يعتمد عليها لإدارة سياسته الخارجية والأمنية بالسلطات النازية. واستغل ترامب قيام موقع إلكتروني بنشر التقرير الذي يظهره بطريقة مشينة، ليستأنف حملته القديمة ضد وسائل الإعلام الأميركية.
الرئيس أوباما وجه انتقادات ضمنية للرئيس المنتخب ترامب، من خلال التركيز على ضرورة احترام القانون والدستور ونبذ التعذيب واحترام الحقوق المدنية للأميركيين، وقال في هذا السياق “ولهذا أرفض التمييز ضد المسلمين الأميركيين، لأنهم وطنيون مثلنا”. وهكذا رد أوباما على تأكيدات ترامب خلال الحملة الانتخابية بأنه سيستأنف تعذيب المعتقلين في غوانتانامو بواسطة أسلوب الإيحاء بالإغراق، على الرغم من أن هذا الأسلوب وفقا لقانون أميركي جديد يعتبر أن هذا الأسلوب يرقى الى مستوى التعذيب. إشارة أوباما إلى المسلمين الأميركيين، تهدف الى تذكير ترامب بمواقفه العدائية والتمييزية ضد المسلمين خلال حملته، حين تعهد في حال انتخابه بمنع المسلمين من دخول البلاد، وإن كان قد عدّل لاحقا هذا الموقف قائلا إنه سيمنع دخول رعايا الدول التي ترعى الإرهاب أو التي تحدث فوق أراضيها أعمال فوضوية وعنف. كما وجه أوباما انتقادا ضمنيا لترامب المعجب بالرجال الأقوياء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين أشار الى أن النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مهدد الآن من الأنظمة الأوتوقراطية التي ترى في الديموقراطيات المفتوحة والقيم الليبرالية خطرا عليها.
من جهته واصل الرئيس المنتخب ترامب تمسكه بإقامة علاقة جيدة مع روسيا على الرغم من اعترافه للمرة الأولى منذ أشهر بأن روسيا كانت وراء أعمال القرصنة التي استهدفت الحزب الديموقراطي ورئيس حملة هيلاري كلينتون جون بوديستا. وإذا كانت روسيا بقرصنتها تهدف الى مساعدة ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض، فإن الرئيس المنتخب لا يرى في ذلك أي سبب يدعو للإحراج، ويقول “إذا كان بوتين معجبا بدونالد ترامب فإنني أعتبر ذلك أمرا إيجابيا، وليس عبئا ثقيلا، لأن علاقاتنا الراهنة مع روسيا التي يمكن أن تساعدنا في محاربة داعش سيئة جدا”. ويضيف ترامب: “إن هذه الإدارة (أوباما) هي التي خلقت داعش، عندما انسحبت (من العراق) في الوقت الخاطئ، وخلقت الفراغ الذي ولدت فيه داعش”.
إنها قصة رئيسين، وقصة رؤيتين، وقصة مدينتين كبيرتين: نيويورك وشيكاغو خلقتا رجلين مختلفين مثل أوباما وترامب. المفارقة الآن هي أن هناك مدينة ثالثة خيمت بظلها الضخم على الرئيسين ومدينتيهما واسمها موسكو. وأن بين الرئيسين الأميركيين، الآتي والراحل رئيس ثالث اسمه فلاديمير بوتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى