كتَـــــاب الموقع

في مهبّ ريش

فرج الترهوني

في المحروسة، تكاد الدنيا تقوم ولا تقعد هذه الأيام. ولأن مصر هي أمّ دنيا العرب، فبطبيعة الحال تندلقُ تداعيات القضية الراهنة إلى المحيط العربي الذي يتأثر بكل ما يجري في مصر. أما سبب هذا الوعيد والهياج الشديد، فهو محتوى فيلمٍ مصريّ نجح للمرة الأولي في تاريخ صناعة السينما المصرية، في الخروج من دائرة المحلي وحلّق في مدار العالمية بحصوله على جائزتين من مهرجان “كان” بالإضافة إلى جوائز أخرى من مهرجانات أخرى، آخرها من مهرجان “الجونة” المصري.

ويناقش فيلم “ريش” قصة أمٍّ تعيش مع زوجها وأبنائها حياة لا تتغير وأياماً تتكرر بين جدران منزل لا تغادره ولا تعرف ما يدور خارجه. وذات يوم يحدثُ التغيّر المفاجئ ويتحول زوجها إلى دجاجة، فأثناء الاحتفال بعيد ميلاد الابن الأصغر، يخطئ الساحرُ ويفقد السيطرة على أدواته، ويفشل في إعادة الزوج الذي كان يدير كل تفاصيل حياة هذه الأسرة.

هذا التحول العنيف يجبر هذه الزوجة الخاملة/البسيطة على تحمّل المسؤولية بحثاً عن حلول لأزمتها واستعادة الزوج، بينما تحاول النجاة بما تبقى من أسرتها الصغيرة في وسط فقرٍ مدقع.

مقارنة على الأقل بمحيطها الشرق أوسطي، فمصرُ دولة عظيمة ومتطورة نسبيّا، وبالإضافة إلى تاريخها الحضاري المعروف، فقد كانت من أوائل دول المنطقة التي تقاربت مع الحضارة الغربية بنسختها الحالية، وكمثالٍ على تلك المقاربة، فقد افتُتحت دار الأوبرا فيها عام 1888، وبدأ ترام القاهرة في تشغيل أولى قاطراته في العام 1896. وفي الوقت الذي لا توجد فيه الآن دار عرض واحدةٍ للسينما في دولة مجاورة مثل ليبيا الغنية بمواردها الطبيعية، فإن علاقة مصر بالسينما كانت في الوقت نفسه الذي بدأت في العالم، فمن الثابت أن أول عرض سينمائي تجاري في العالم كان في ديسمبر 1895 بالعاصمة الفرنسية باريس، وكان فيلما صامتاً للأخوين “لوميير”، وبعد هذا التاريخ بأيام قُدم أوّلُ عرض سينمائي في مصر بمدينة الإسكندرية في يناير 1896 أما إنتاج الأفلام فجاء مع العام 1917، ولم يتوقف أبدا، حيث من الثابت إن مصر أنتجت نحو خمسة آلاف عمل سينمائي أو يزيد، خلال قرن من الزمن.

الفكرة من ذكر هذه المحطات والتواريخ التأكيد بأن مصر دولة عظيمة ولها تاريخٌ مشرّف في مجالات عدّة ومنها الفنون، وكان فيلم “ريش”، الحائز على الجائزة الكبرى لأسبوع النقّاد في مهرجان “كان”، وهي أول جائزة يحصل عليها فيلم مصري طويل في تاريخ المهرجان، قد واجه انتقادات من كبار الفنانين المصريين، الذين انسحبوا من قاعة العرض، بعد مرور ساعة واحدة من بدء عرض الفيلم، احتجاجاً على ما أسموها “إساءة لسمعة مصر”. وهذه والله نقطة مظلمة وسلبية تسجل في حق من يُفترض أنهم واعون بِدورِ فنّ السينما، وأهمية ألا يتعرض للقمع وسوء الفهم، وبالأخص من أصحاب “الكار”.

تعلّلَ البعض، بأن أبطال الفيلم يعيشون واقعاً قاسياً يخالفُ واقع المبادرات التي تقوم بها الدولة المصرية لمحاربة الفقر والعشوائيات، وأن تكفل حياة كريمة للمواطنين، ووصل الأمر بإعلان عضوٍ في البرلمان المصري بطلب إحاطةٍ لمساءلة رئيس الوزراء ووزيرة الثقافة بشأن عرض الفيلم “المسيء لمصر” على حد تعبيره. لكن هؤلاء المزايدين تناسوا أن الفيلم ليس وثائقياً عن حياة الفقراء في مصر، وهم موجودون بالفعل، وليست له علاقة بواقع اجتماعي معين، بل يمكن أن يكون في أي مكان وأي زمان. وبالتالي فإن مهمة الفن الصادق هي تقديم نماذج أقرب إلى الواقع عن البشر وحياة المجتمعات وقضايا الإنسانية المختلفة، ومن ثم يُترك للجمهور وللنقاد تقييمها وإصدار الحكم عليها.

لكن مصر أيضا، بقدر عظمتها وتصدّرها للنهضة في محيطها، فقد عانت كثيرا من قِبل حركات وأفكار أصولية تحاول شدّها إلى الوراء، وتمعن في محاربة الأفكار والفنون الجريئة الصادقة، ولنا في ما تعرّض له مفكرون مثل طه حسين، وفرج فودة، ونصر حامد، وكثيرون على شاكلتهم من روّاد التطوّر والحداثة خير مثال. أمّا أزمة فيلم “ريش” فلن تكون الأخيرة طالما وُجد المزايدون، ومغيّبو الوعي، ومنهج التكفير السائد في مجتمعاتنا لا يقتصر على الشؤون الدينية، فقد كبر وتشعّب وصار له فرعٌ تحت مسمّى “التكفير الفني”.
فرج الترهوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى