مقالات مختارة

في مديح الغناء

جمعة بوكليب

كلما تقلصت ذائقة الإنسان الفنية، وحوربت عقائدياً، وحُرِّمتْ، زادت فرص تراكم الوحشية في القلب الإنساني. ولعل ذلك يفسر، إلى حد ما، ما رأيناه وعشناه من وحشية ودموية انسابت جارية في مسارب واقعنا اليومي، خلال الأعوام الأخيرة، التي أرَّخت لظهور المتطرفين وتشددهم في محاربة الغناء والموسيقى، وكل ما يثير في الكائن البشري الفرح، ويزيد من ارتباطه بالحياة على نحو إيجابي.

الأغاني كالطيور بتنوع أشكالها، واختلاف أحجامها، وتعدد ألوان ريشها، وتمايز طبائعها، وبيئاتها. ويمكن، على الجملة، تقسيمها إلى اثنين: طيور محلية، ملتصقة بالمكان الذي ولدت وطارت فيه لأول مرة، وأخرى مهاجرة، بأجنحة كبيرة، وميل إلى السفر والرحيل.

الأغاني أيضاً كذلك. هناك أغانٍ بأجنحة صغيرة، عادية، بلون التراب، وأخرى مثلها بأجنحة صغيرة، بريش ملون، وسقسقة؛ لكنها تطير من غصن إلى غصن، ومن فرع إلى فرع، ومن شجرة إلى نخلة، إلى زيتونة. ولا يغويها، أو يستثير فضولها ما وراء الأفق. إنها تولد وتعيش وتموت في البقعة التي رفرفت فيها محلقة في الفضاء، وتلقفتها القلوب، ورددتها الأفواه، ثم تموت، ولا يعود يذكرها أحد.

وهناك أغانٍ تولد بأجنحة كبيرة، مهيأة للسفر والرحيل، متنقلة من فضاء إلى فضاء، ومن سماء إلى أخرى، وتتبادلها القلوب، وترددها الأفواه، بلغات عدة. هذا النوع عابر للحدود، وعابر للزمن.

الفن، على وجه العموم، عابر للزمن، ولا يعرف حدوداً، ولا يعترف بتقسيمات وبوابات، لذلك لا يحمل جواز سفر. إنه إبداع إنساني، يتنقل بحرية، بين بلدان الدنيا، ومختلف تشعباتها، غير مقتصر على أبجدية دون أخرى. والغناء، واحد من أنواع كثيرة لتجليات الفن؛ لكنه، يبدو لي، كحادي عيس، يسير في مقدمة قافلة طويلة من الفنون، في اتساق مع بيئته، وزمنه، وما يعتمل داخل إنسانه من أشواق وآلام.

هناك أغانٍ التصقت بتراب طفولتنا، وخفقت بأجنحتها متنقلة بين أغصاننا، وأشجارنا الصغيرة الوارفة، ثم تركناها وراءنا، حين انجذب إيقاع قلوبنا لغيرها في مرحلة عمرية لاحقة. من حين لحين، تناوشنا الطفولة، ويهسّ في قلوبنا أوراق شجرها، فنلتفت نحوها بحنو، لنسمع تلك الإيقاعات وهي تخفق بأجنحتها، في فضاء ذلك الزمن. لكننا لا نتوقف، نواصل المسير، ونمد الخطوات، متنقلين بأحمال قلوبنا، في شوارع وطرقات الزمن، بحثاً عن إيقاع جديد، بأجنحة مختلفة، وبريش بألوان تسحرنا، وسقسقة تدعونا إليها، فننطلق كدراويش منجذبين نحوها، حتى نلتقيها، فنفتح أبواب قلوبنا أمامها على مصارعها، لتدخل بهيجة، ولتضيف إيقاعاً جديداً إلى إيقاعاتنا، ولتقيم فينا، وفي تجاويف وحنايا أيامنا وليالينا، وأفئدتنا، مخففة من ثقل أحمالنا.
ثمة أغانٍ لا تلتصق بتربة زمنية محددة، ولا تطيق أقفاصاً، وقد لا نعرف أين ولدت، ولا كيف وصلتنا، وتتكلم بلسان يخالفنا؛ لكننا ننجذب نحوها هائمين؛ لأننا ندرك تماماً حجم الزلزلة التي تحدثها في شبكات مشاعرنا المعقدة، وما تضخه في دمائنا من هواء مختلف ونقي، يتسلل إلى الخلايا والشرايين والأوردة، راوياً كجدول ساقية ما ظل مخبئاً من بذور الحياة فينا، فننمو ونورق ونزهر.

لو أن طفلاً حديث الولادة، استمع إلى إيقاع موسيقى، هل يا ترى تأسر انتباهه؟ بمعنى آخر: هل انجذب الإنسان أولاً إلى إيقاعات الطبيعة من حوله، وحاول تقليدها، وإبداع أخرى مشابهة أو مخالفة، قبل أن يكتشف اللغة، ويصبح قادراً على النطق والغناء؟

ثمة إيقاع في كل شيء حولنا، ليس فقط في سقسقة الطيور، وخفق أجنحتها بالرفرفة. على سبيل المثال لا الحصر: ماذا عن الإيقاع في هسيس ورق الشجر مستجيباً لنسيم عابر، أو عصف رياح وعواصف؟ ذلك الإيقاع، أو الإيقاعات، هي البداية لتشكل وانطلاق غنوة في القلب. همهمة، أو دمدمة، تسري في الخاطر، في استجابة وتوافق مع مشاعر اللحظة، ثم تتجمع تلك الهمهمات، أو الدمدمات، كندف ثلج، ثم تنطلق من أقاصي الروح، وتتمدد إلى كل الجوانح، بإيقاع مموسق، أو بموسيقى موقعة، ثم تنبثق اللغة على شكل كلمات منظومة في عقد، وراء عقد، وراء عقد، ثم تنبت لتلك الكلمات والإيقاع والموسيقى أجنحة، فترف في القلب، ثم تطير خارجة إلى الفضاء، فنطير خلفها راقصين، أو باكين، أو في حالة بين الاثنتين.

الغناء طيور عابرة للقارات، واللغات؛ لأن منبعه القلوب، ومقصده القلوب. قلب الكائن البشري، في الحقيقة، يعمل بموجتي إرسال واستقبال. بقدر ما يرسل يستقبل، وكلما استقبل أكثر ازداد إنسانية، وارتفع سمواً، وارتقى حضارياً؛ لأن في المركز من طبيعة الغناء أن يربي الذائقة الفنية في البشر، وكلما نمت تلك الذائقة، ووجدت البيئة المناسبة لنموها وتمددها داخل الإنسان، ارتقى وجدانه، واتسع فضاء قلبه، وتقلصت داخله أشواك الكراهية والحقد والعداوة والبغضاء، وأحسّ بشدة الانتماء لبني جنسه من البشر.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى