كتَـــــاب الموقع

في كل شاعر زوربا

المهدي التمامي

الشعر رسالة، وهنا تكمن صعوبة تواصلية من نوع خاص، أو كما عبر عنها “كافكا” في رسالته إلى ميلينا، بأن أداء رسالة بواسطة اللغة يعتبر شيئًا مستحيلاً، لأننا نحاول أن نوصل شيئاً غير قابل للتوصيل، وأن نشرح دائماً ما يتعدى طاقة البشر.

“في كل شاعر زوربا”.. جملة شعرية أبدعها الشاعر المحكي “سالم العالم”.. هذا الشاعر جاء من خلفية معرفية عميقة، فهو ملمّ قبل شيء بمدونة الشعر الشعبي الهائلة، ومن الشعراء القراء لكل أنواع المعرفة، بالأخص الروايات، وما ورود شخصية “زوربا اليوناني” في شعره إلا دلالة على البعد القرائي الذي ينتهجه هذا الشاعر المجدد.

إن التجديد، أو الحداثة الحقيقية، هي ليست اختراعاً، بل تجربة شخصية.. إذا لم تكن شخصية فإنها حتماً ستكون ظلالاً باهتة لتجارب الآخرين.. وفي الجملة الشعرية السابقة للعالم.. نلاحظ كيف استطاع أن يتجاوب مع مضامين عصره، بمعرفة شعرية خالصة جعلت من نصوصه تقدم تجسيداً صادقاً لروح العصر.

كنت، وما أزال.. ضد أن يوضع الشعر الشعبي في قوقعة محلية.. بل ينبغي أن يكون أكثر تساؤلاً عن الجانب المعرفي للشعر.. والأمر هنا يعتمد على طاقة الإبداع الداخلية في جوهر الشاعر.. وهنا أيضًا وجبت الإشارة إلى نقطة مهمة غفل عنها كثير من النقاد المحليين للأسف، ألا وهي عدم الاكتراث بالعامية وتناول نصوصها بالدراسة والتحليل.. والحقيقة أن عامية اللغة لا تسلب الشعر مقومات الأدب الرفيع على الإطلاق، فهناك قصائد كتبت باللهجة الشعبية لكنها تحمل أفكارًا متطورة جدًا وعميقة للغاية حيال الكون والوجود الإنساني.

وخير مثال على ذلك “شعراء المحكية”.. حيث استطاعوا أن يخلصوا القصيدة الجديدة، ذات التقطيع الموسيقي المتعدد من الثقل القديم، والجزالة الاضطرارية التي سيطرت على مواهب عدة مما ذهب بضيائها نحو ثقوب سوداء امتصت ما لها من مستقبل.. وكذلك أدت إلى عزوف الأجيال اللاحقة عن متابعة الشعر الشعبي لهذا السبب تقريبا..

وكاد الشعر أن يفقد حضوره الدائم كأهم تعبير عن الأحاسيس الليبية عامة، وفي أغلب رقعة البلاد الشاسعة؛ لولا أن تداركه هؤلاء الشعراء المجددون بانعطاف باذخ، وكذلك ما قدمه البرنامج الشهير “شاعر ليبيا” عبر شاشة 218‪ من خدمة جليلة لهذا الأدب الرفيع وعاد به من بعيد، في مراهنة حاسمة، ليجد قبولاً أكثر وهو يصعد بالذائقة الشعبية إلى أعلى مراتب الإحساس.

من هنا؛ أخذت حريات جديدة تنطلق في مجراها خلف الإطلاق.. يصدم شعراؤها الحساسية المعتادة وهم يلفظون اللغة باشتهاء طازج غير مكرور… شعراء نجحوا في خلق ما ينبغي أن يصعدوا به إلى المقام الأول، ويشقوا به طريق الشعر عبر الكلام الثقيل، وصولاً إلى أرفع حالات الروح الإنسانية التي تمثل الشكل الأروع؛ الأكثر إقناعاً تحت خطاطة الحقيقة الأزلية.. شعراء يعتبر الحدث المركزي في حياتهم هو البحث عن الكلمات المضيئة وتحويلها إلى شعر.

هذه محاولة للمضي نحو شعر شعبي يليق بأسئلتنا؛ فالوعي السهل أن تعرف نفسك أنك شاعر.. بينما يبقى الوعد المعقّد في مدى قدرتك على استيعاب الرسالة.. وأن تجربتك على مستوى من القيمة بما يستحق مجابهة التحدي الصارم في التعبير عنها وبعثرة اليقين السالف وأخلاقيات كنا نظنها راسخة وصلبة؛ وأنها صالحة للاتكاء عليها بلا أي قلق أو خجل.. أن تكون القصيدة أكثر معاناة.. وشفاءً في نفس الوقت.. وأنت تسير على هذا الطريق المجازي الذي يسمى شعرًا.. كما لو أن الشاعر يسير على سلك رفيع مشدود..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى