حياة

في قورينا.. لعنة لاحقت زيوس

بعد أزمة سكانية في بلاد الإغريق القديمة ونتيجة لزيادة عدد السكان بالإضافة إلى إصابة المنطقة بالقحط والجفاف، اتفق الكثير من أهل “ثيرا” الإغريقية سانتورين حالياً وهي إحدى مدن هيلاس في اليونان القديمة على أن يهاجر قسم منهم للاستيطان في موطن آخر .

وقد رأى أهل الجزيرة أن يستعينوا بوحي الإله “أبولون بدلفي” قبل الإقدام على هذه الخطوة فأشارت إليهم بذهاب إلى ليبيا، وعند وصولهم لشواطئ جزيرة بلاتيا ” البمبا ” حاليا انتقلوا إلى مناطق عديدة في الجبل حيث وقع اختيارهم على هضبة يوجد بها نبع سمي فيما بعد بنبع أبولو لتكون هذه البداية لتأسيس المدن الإغريقية في ليبيا.

قورينا “شحات” حاليا كانت أحد أهم المدن الإغريقية في الساحل الليبي واشتق اسمها من نبات الزنبق البري والذي يسمى عند السكان الأصليين للمنطقة باسم “القورا” وسيطرت المدينة التي اُنشِئت مؤخراً على باقي المدن الأخرى في ليبيا وكانت تمثل في بنائها وفخامة نقوشها مرآة تعكس صورة الحضارة الإغريقية المتفوقة تلك الفترة .

لم يترك الإغريق معتقداتهم الدينية في هيلاس “اليونان القديمة” فقد كانت معتقداتهم بالآلهة شيء مقدس لذا قام المهاجرون الجدد ببناء أحد أهم المعابد في العالم القديم في قوريني.

معبد زيوس يعود تاريخ إنشاءه إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث تم تشييده آنذاك بأعمدة ضخمة على الطراز الدوري الكلاسيكي مما جعله يعد أكبر معبد إغريقي في شمال إفريقيا وثاني أكبر المعابد في العالم القديم المشيدة على الطراز الدوري الفخم، وخصص لتعبد زيوس كبير الآلهة الإغريقية.

فيزوس في معتقدات الإغريق الدينية هو أب الآلهة والبشر وهو الذي يحكم جبل الأولمبوس باعتباره الأب الوريث ويعتبرونه إله السماء والبرق والرعد والقانون والنظام والعدالة، وكان الإغريق يخشونه كالبرق والرعد والسماء الواسعة، لهذا كان يجب أن يمثل البناء عظمة زيوس فكان أكبر حجماً حتى من البارثينيون في أثينا، وأصبح من أهم المعابد خارج مدينة أولمبيا التي يقع فيها مذبح “زيوس” و”هيرا” المقدسان لدى الإغريق قديماً .

يتميز معبد زيوس في قوريني بصفين من الأعمدة الدورية الكلاسيكية بشكل مثمن الأضلاع مشيد على الطراز العتيق الذي يميز العمارة في تلك الحقبه الزمنية ، كما يوجد بالمعبد تمثال لزيوس حجمه يفوق حجم الإنسان الطبيعي باثنى عشر مرة، وفي العصر الروماني قدم الإمبراطور أغسطس نسخة طبق الأصل لتمثال زيوس الشهير الذي نحته النحات فيدياس، فيما قدم أباطرة آخرون هدايا مشابهة للمعبد لم يتبق منه سوى بعض الرؤوس وبضعة أصابع من اليد وهي معروضة الآن بمتحف للمنحوتات في شحات .

موضوع حجم المعبد وعراقته آثار جدلاً كبيراً بين بعض العلماء من أمثال البروفيسور الإيطالي ماريو لوني من جامعة أربينو الذي قال أن معبد زيوس في قورينا هو الأكبر في عالم الحضارة الإغريقية ويقول أن الفرق ما بين معبد الپارثينون و زيوس في قورينا هو أن الأول مشيد من الرخام فقط ولايجود فرق بين الاثنين، بينما يقول البروفيسور گولدشيلد بأنه يرى أن معبد زيوس أضخم بقليل من ناحية الحجم من الپارثينون في أثينا ومعبد زيوس في ألمبيا.

عبر عقود طويلة تعرض معبد زيوس للهدم وللتخريب كانت أول تلك الأعمال التخريبية حينما تمرد اليهود في المدينة بين عامي 116 – 117 بعد الميلاد فقاموا بهدمه وتدميره بشكل جزئي، ليتم بعد ذلك اجتثاث الأعمدة التي كانت تحيط بالمعبد، من ثم أعيد بناءه من الداخل بعد الثورة التي قادها الإمبراطور كومودوس الذي قام بإدخال بعض التعديلات في مظهر المعبد منها ولعل أهمها كان إضافة المصطبة الضخمة التي تحمل تمثالا كبير في حجمه وهو تمثال زيوس الذي يعادل اثنى عشر ضعف الحجم الطبيعي، وصمم على طريقة تمثل شكل الإله جالسا على نمط تمثال زيوس الشهير في الأولمبيا وقد كانت جميع أجزاء التمثال مصنوعة من الرخام .

المعبد المجدد لم يدم طويلا ولم يسلم من لعنة الهدم ولكن هذه المره كان للطبيعة دروها فقد انهارات أجزاء كثيرة من المعبد بعدما ضرب حوض البحر المتوسط زلزال قوي عام 265 م، تسبب بفقدان المكان لكل ما تم إضافته له من تحويرات أشرف عليها الإمبراطور كومودوس، ليأتي الدور على المسيحيين من سكان قورينا فيما بعد ليقوموا بإكمال المشهد بتدمير كل ما تبقى من زيوس فحطموا التماثيل والأعمدة الرخامية وأحرقوا المبنى بالكامل من الداخل .

لعنة لاحقت معبد زيوس كبير الآلهة اليونانية الذي يرمز لقوى السماء والبرق والرعد، فمن الهدم المتعمد والحرق المقصود إلى الكوارث الطبيعة ظل المعبد يحارب ضد متغيرات الزمن المتلاحقة ليبقى شاهداً على زمن لن تذكره إلا صفحات كتب التاريخ مع بعض الصور والاعمدة الموجودة هناك والتي عايشت عصراً ليس كباقي العصور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى