مقالات مختارة

في بدايات عام جديد!

عبد المنعم سعيد

دخلتْ الدنيا إلى عام جديد وهي مكللة بالألوان اللازمة لاحتفالات رأس السنة، وما فيها من بهجة ينتظر فيها الناس أن يكون ما يأتي خيراً مما ذهب. بالطبع، البشر والأمم ليسوا متساوين في الإحساس الخاص بالتفاؤل والتشاؤم، فهناك فارق كما هي العادة بين الشمال والجنوب، والمتقدمين والمتأخرين، والدول الصناعية والأخرى الزراعية أو التي تعتمد على استغلال ثروات طبيعية.

لكن رغم كل ذلك فإن هناك ما يدعو إلى البِشْر الذي يخص الجميع، فعلى سبيل المثال فإن العالم يطرق أبواب عام جديد، وهناك مؤشرات على زيادة معدلات النمو في المنظومة الدولية، وعندما يحدث ذلك فإن التجارة الدولية تزيد، والطلب على الطاقة والمواد الأولية يحدث، وفي ضوء تقسيم العمل الدولي فإن الاعتماد المتبادل بين الدول يزيد. وعلى سبيل المثال أيضاً فإن أسعار النفط وصلت إلى نقطة معقولة لجميع الأطراف، المنتجين والمستهلكين، فساعة كتابة هذا المقال كان سعر برميل النفط قدره 65 دولاراً، وهو ليس بالمرتفع الذي كان منذ أعوام عندما وصل سعر البرميل إلى 115 دولاراً، ولا هو بالمنخفض الذي تدنى إلى أقل من 30 دولاراً منذ عام.

السعر الحالي، أو ما حوله ارتفاعاً أو هبوطاً، لا يثقل على استثمارات الدول المختلفة التي يترتب عليها بالضرورة استهلاك النفط والطاقة في عمومها، وفي ذات الوقت فإنه لا يُثقل على الدول المنتجة ويجعل عجز موازناتها مانعاً للنمو. هذه النظرة المتفائلة إلى الاقتصاد الدولي تستند من ناحية إلى حالة النمو المتسارعة في الولايات المتحدة، وكذلك في الدول الأوروبية، ويبدو أن العالم الآن قد خرج من الأزمة المالية الكبرى التي ألمّت به في عام 2008 وآن الأوان لانطلاقة كبرى.

ولكن الحالة الاقتصادية للدنيا، على أهميتها، ليست كل شيء، فهناك أمور أخرى ربما تكون أكثر أهمية مثل الأمن الدولي، وذلك هو الآخر لا يوجد فيه ما يزعج، فالحقيقة هي أنه لا توجد حرب «دولية» في الوقت الراهن، ربما فيما عدا تلك الناشبة في اليمن، وهذه في جوهرها حرب أهلية مختلطة مع حرب بالوكالة نيابةً عن إيران. وفي الواقع فإن هناك تحالفات دولية جارية لم يكن ممكناً تصوُّر حدوثها في أزمنة سابقة مثل ذلك التحالف الذي جرى بين إيران وتركيا وروسيا من أجل إنقاذ النظام السوري، أو بين هذه الثلاثة ضمنياً والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة من أجل دحر «داعش».

صحيح أن انهيار «داعش» لم يعنِ نهاية الظاهرة «الداعشية»، ولكن الحقيقة الواضحة هي أن الداعشيين والإرهابيين في عمومهم هم الذين يهربون الآن، ويبحثون عن مناطق جديدة يفرضون فيها إرهابهم، أو يفوضون فيها «ذئاباً منفردة» لكي تقوم بالمهمة التي فشلوا فيها. «الحرب ضد الإرهاب» مهما كانت شراستها فإنها لا تقارَن بالحروب بين دول العالم، ورغم وصفها بـ«العالمية» فإن الوصف يجري على سبيل شرح اتساع نطاق الإرهاب، فهناك دول كثيرة لا تعرفه، كما أن عدد ضحاياه من قتلى وجرحى، على كثرتهم، لا يمكن مقارنته بحروب عالمية حقة، حيث كان الضحايا بعشرات الملايين. أكثر من ذلك فإن هناك تعاوناً دولياً ملموساً في مجال الإرهاب، وفي مجالات أخرى.

صحيح أن العالم بدا منقسماً ومتوتراً ساعة قيام الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، فوقفت 14 دولة ضد الولايات المتحدة في مجلس الأمن، ولم يقف بجوارها إلا 8 دول ضد 128 دولة في الجمعية العامة، ولكن بعد فترة قصيرة للغاية، وقبل أن ينصرم العام، وقف العالم كله، وبأغلبية 15 عضواً في مجلس الأمن، مسانداً القرار الأميركي بفرض عقوبات قاسية على كوريا الشمالية. وبمقارنةٍ بين هذه اللحظة ولحظة أخرى حدثت في عام 1950، فإن انقسام الشمال والجنوب، وبين الشيوعيين وأعدائهم، أدى إلى تدخل الولايات المتحدة، ومن بعدها الصين، وجرت حرب دامية استمرت 3 سنوات. هذه المرة فإن الولايات المتحدة وقفت بجانبها الصين وروسيا، أي أركان الحرب الباردة السابقة. ورغم كثرة الحديث في العالم عن عودة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى، فإن الحديث يغفل التعاون الجاري بينهما في مسارح عديدة منها سوريا وإيران ومكافحة الإرهاب بالطبع. خبراء العلاقات الدولية يقولون إن العالم لم يعد قائماً على القطبية الثنائية التي كانت وصفاً للحرب الباردة، كما أنها لم تعد انعكاساً للقطبية الواحدة الأميركية التي بدت فيها الولايات المتحدة حاكمة للدنيا كلها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. العالم بات متعدد الأقطاب، انعكاساً ليس فقط لحقائق أمنية، وإنما أيضاً حقائق اقتصادية وتكنولوجية؛ وفي مثل هذا العالم فإن أشكالاً كثيرة من التعاون تظهر وتنتشر.

العام 2018 ربما يكون الزمن الذي تتضح فيه هذه الصورة، وما يترتب عليها من أشكال تعاون، ربما تؤثر على إدارة الحرب ضد الإرهاب، والصراعات في الشرق الأوسط، وأوكرانيا أيضاً.

هذه الحالة الإيجابية أمنياً واقتصادياً تساندها انطلاقات تكنولوجية كبرى وُصفت أحياناً بالثورة التكنولوجية الرابعة، التي لا تكاد تجد مجالاً إلا ودخلته بقوة اندفاع هائلة. ومن غزو عميق للفضاء السحيق إلى اقتحام الخلايا السرطانية فإن هذه الثورة أعطت للإنسان عامة، وربما خاصة في الدول المتقدمة، قدرات خارقة جديدة. لا أحد يعرف بالضبط ما الذي سوف تقود إليه هذه الثورة من حيث علاقات البشر بالبشر والدول بالدول، ولكن ما نعرفه عن هذه الثورة، مثل الثورات السابقة عليها، أنها لا تساوي بين الرؤوس، أفراداً أو مجتمعات أو أمماً، هي تطرق على أبواب 2018 بقوة مؤذنة بانقلابات جديدة في طرق الإنتاج والاتصال والتفاعل بشكل عام، وأدواتها كل ما هو ذكي، من الأدوية الذكية إلى الأسلحة الذكية أيضاً.

في منطقتنا العربية فإن عام 2018 يأتي لكي يجد ليس فقط هزيمة الإرهاب في الموصل والرقة، وتراجع النزعة الانفصالية في الإقليم الكردي العراقي، وإنما أيضاً أن العراق ذاته بدأت تدبّ الحياة في أوصاله. وأكثر من ذلك فإن التيار الإصلاحي في المنطقة اكتسب مَدَداً جديداً مع التغيرات الإصلاحية في المملكة العربية السعودية التي سوف تجد في العام الجديد أشكالاً أكثر للتعبير عن نفسها، مما كان عليه الحال في العام الذي وُلدت فيه. ولكن إذا كانت الدهشة كبيرة إزاء هذه التطورات في المملكة، فإن التيار الإصلاحي العربي وجد لنفسه مكاناً في دول عربية متعددة تفاوتت فيها سرعات الإصلاح، ولكنها سارت فيه في كل الأحوال. علامات ذلك نجدها في مصر والأردن والمغرب والكويت والبحرين وتونس والجزائر، وكلها تدور حول فتح أسواق مغلقة، وتشجيع الاستثمارات، واتخاذ قرارات صعبة تأخر اتخاذها لسنوات طويلة. دولة الإمارات العربية المتحدة تبدو سبّاقة في هذا الاتجاه حيث تقدم نموذجاً مشجعاً لدول عربية أخرى.

ربما كانت نهاية العام المنصرم، وما حدث فيها متعلقاً بالقدس، مسببة للتشاؤم، ولكن العام الجديد ربما يحمل ما يدعو إلى التفاؤل في أمور أخرى.

……………….

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى