كتَـــــاب الموقع

“في السجن والغربة” وعرس الدم الطويل

سالم العوكلي

كتابة السيرة أو المذكرات تشكل التاريخ الموازي في كل مرحلة، أو بمعنى آخر توثيق التاريخ المسكوت عنه عبر شهادة أشخاص كانوا على مقربة من أحداث هامة، منتجين لها أو مستهلكين، فاعلين بجانب السلطة أو ضحايا لتغولها، وفيما سبق عانى أدب السيرة أو كتابة المذكرات من ابتسار مخل بالحقيقة في ظل التكتم على أحداث وتفاصيل يصعب الحديث عنها في ظل نظام عاش عقوداً وهو يسعى لكتابة تاريخه بحبر انتقائي وشكل دعائي، يغربل وقائع المرحلة بشكل يجعل نصاعته الهدف من كل كتابة توثيقية، فسكت البعض وابتلع سيرته وأسراره، والبعض كتبها بحذر، وبعض آخر كتبها بأكثر تجرد وجرأة كعمل سري مؤجل النشر حتى ينقشع الضباب، وهو ما ينطبق على كتاب د. جمعة عتيقة (في السجن والغربة ـ مذكرات) والذي اختار لندن عاصمة الضباب مكانا مناسبا لنبش الذاكرة قبل ثورة فبراير وبعد اعتقاله التعسفي بتهمة ملفقة، وعندما كان الأفق مغلقا بعد تنحيه عن عمله الحقوقي بجمعية حقوق الإنسان، ذلك العمل الذي سعى من خلاله إلى أن يقدم أقصى ما يمكنه من أجل إثارة موضوع حساس وهو حقوق الإنسان بليبيا، بعد أن خرج مكتظا بالألم من سجونها القاسية، وترك رفاقا يعانون الأمرين في عتمة سرية وشرسة، ظلت لسنين طوال في منأى عن عيون الضمير العالمي ومؤسساته الحقوقية، حينما كان العالم، ومازال، لا يرى من سلة الرمال هذه سوى مداخن النفط في صحرائها. يقول في تمهيده لهذا البوح المتأخر: “حينما كتبت هذه المذكرات سنة 2007 أثناء تواجدي خارج ليبيا وكتب الفصل الأخير سنة 2010 .. لم أكن أتوقع أن تنشر في حياتي، فالظلام كان حالكاً وخيوط الأمل تتبدد مع مضي العمر، وقد أوصيت أولادي بنشرها حينما ينقشع الظلام ويغمر ليبيا ضياء الحرية … غير أن الله قد منَّ علي بأن أشهد لحظة الانتصار العظيم وانكسار جحافل الطغيان والتخلف والجريمة، وها أنذا أقدمها للقارئ كما كتبت حينها.”.
تصارع الجانبان؛ القانوني والسياسي، في داخل الكاتب طيلة هذه السنين، ومارس مهنته كمحامٍ، وأستاذا للقانون، ونشاطه كسياسي معارض ومشاكس في الوقت نفسه، مع شغف بالشعر الذي كان وسيلته لالتقاط أنفاسه في ماراثون من التهم والملاحقة.
السياسة كانت فن الممكن لديه الذي يقوده حس وطني عالٍ، والقانون كان مدونة الضمير التي تجذر لمسألة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، والتجربة الذاتية في المعاناة كانت الضلع الثالث المغذي لسبيلين اختارهما للعراك مع سلطة مطلقة شرسة ومتخلفة، لا تعرف الرحمة ولا تؤمن، مثل سجونها، بأية نوافذ للتنفس أو النور، فهو لم يأتِ إلى تلك المعركة من مكتب فاره للمحاماة أو من مقاعد الجامعة كترف يقوم به الأكاديميون، لكنه جاء من تجربة مريرة وملاحقات لا تنتهي تعرض لها في أصقاع الدنيا، كان كل صباح فيها يتأكد أنه مازال على قيد الحياة، جاء من زنازين معتمة عانى فيها الجوع والتعذيب والخوف اليومي.
لكل ذلك كان نشيده الأساسي هو حقوق الإنسان في كل ما فعل وما كتب وما قال، فحين يطبق الاستبداد مشفوعا بتواطؤ خارجي وداخلي في سوق المصالح، يصبح أقصى ما يطمح إليه إنسان حقوقي أن يخفف الألم ويسلط الضوء عن بعض ما يحدث في تلك الأنفاق السرية الشرسة البعيدة عن كل شعاع.
يقسم الكاتب كتابه ـ الذي أهداه إلى شهداء مجزرة بوسليم الذين عاش مأساتهم عن قرب ـ إلى أربعة أجزاء رئيسة: فترة الاعتقال الأولى من 1973 إلى 1974 ـ فترة الغربة والترحال من 1977 إلى 1988 ـ فترة السجن الثانية 1990 إلى 1997 ـ فترة الاعتقال الثالثة 2009 .
ويبدأ عتيقة سرد مذكراته برصد ذلك الحراك الثقافي في الجامعة الليبية حين كان يدرس بكلية الحقوق إبان سنين الانقلاب الأولى، متطرقا لمفاصل تلك الحيوية الثقافية والسياسية في جامعة بنغازي المشاكسة التي كانت منذ البداية مصدر أرق وصداع للسلطة، وكان الهامش الذي تركه النظام الملكي للعمل الطلابي مجالا للمشاكسة رغم أنه آخذ في التقلص يوماً بيوم.
شارك الكاتب في عديد المحاضرات والندوات، وكتب المقالات التي تنتقد منذ البداية توجه العسكر تجاه سلطة عسكرية مطلقة، تحاول أن تلغي كل ما يعكر صفوها أو يشكك في يقينها، لذلك سيرصد تصاعد وتيرة التيار الثورجي الذي بدأ هذه المرة يتشكل داخل رحاب الجامعة عبر تجنيد العديد من الطلاب الذين سرعان ما تحولوا إلى ميليشيات مسلحة في جيش خاص من اللجان الثورية، وكان الصدام حتميا بين تيار وطني مثقف وتيار ثورجي يقف مباشرة خلف طابور الجنرالات، وكان الفاصل الأساسي الذي أعلن جهارا عن نية الطاغية بالانفراد بالسلطة هو خطاب زوارة الشهير، والذي صرح عبر نقاطه الخمس عن مخططه لتصفية كل العناصر والتشريعات والنظم التي تقف دون طموحه الاستبدادي، ويذكر من نقطه: إلغاء كافة القوانين المعمول بها ـ الثورة الإدارية ـ الثورة الثقافية ـ تطهير البلاد من المرضى والمنحرفين. ذلك الخطاب المتوتر الذي أثار التوجس والخوف بين الجميع، وتحققت مخاوف الكاتب عبر القبض عليه وإيداعه السجن مع العديد من الناشطين من طلاب وأساتذة ومثقفين، وهو إذ يرصد تلك المرحلة، لا ينسى تلك المقاومة للجلاد بالشعر والسخرية داخل السجن، ولا ينسى ذكر جل الأسماء التي شاركته تلك المحنة، متطرقا للكثير من الحوارات الوطنية التي جرت داخل المعتقل، والحديث المتشنج الذي جرى مع الخروبي في زيارته إلى السجن، والذي أودى به إلى الحبس الانفرادي، حتى تم الإفراج عنه في ديسمبر 1973 وقدم استقالته من نيابة بنغازي لينتقل إلى طرابلس ويشرع في العمل كمحام مستقل، ليخوض صراعات أخرى عبر تطوعه للدفاع في قضايا سياسية، محاكمة ضباط حركة المحيشي، ومحاكمة الأبشات، وجماعة الجبل التي كانوا يسمونها جماعة المفتي. ومع بداية شلال الدم كما يسميه حيث “كان البلد يتشح بالكآبة والحزن ويلتحف بالتوجس والخوف”، وبداية تنفيذ أحكام الإعدام بطريقة بشعة في 21 من الضباط بعد أن أجبر أصدقاؤهم على تنفيذ حكم الإعدام بالأمر العسكري، إضافة إلى إعدام محمد بن سعود، عمر دبدوب، وعمر المخزومي في ساحات بنغازي يوم 7 أبريل عام 1977 ، وترْكِهم يتأرجحون في المشانق لعدة ساعات.
حينها قرر الرحيل (محاولا الهرب من عرس الدم) كما يقول لتبدأ رحلته مع الغربة والترحال والخوف من رصاصات النظام التي تلاحق الليبيين في كل مكان من العالم.
بدأت الرحلة إلى إيطاليا لإكمال دراسته العليا في القانون الجنائي، وبقى حتى تم الزحف على السفارات وبداية التصفيات الجسدية عام 1980 لناشطين في الداخل والخارج، وتم تحذيره من محاولة اغتياله فغادر إلى مصر إلى أن طالبت حكومتها بخروج كل المعارضين الليبيين من أراضيها، فيمم صوب المغرب في فترة كانت العلاقات بين المغرب وليبيا وصلت إلى حد سحب الاعتراف من قبل المغرب بالنظام الليبي، ويسجل في تلك المرحلة حراك التنظيمات الليبية المعارضة في ظل التوجس من المزاج السياسي للأنظمة العربية ولعبة المصالح والمقايضات الدنيئة، ومع تسرب معلومات عن صفقة تسلم بموجبها حكومة المغرب بعض المعارضين إلى النظام الليبي (تلك الصفقة التي تم فيها تسليم عمر المحيشي ونوري الفلاح وغيرهم)، غادر عتيقة إلى روما مرة ثانية لاستكمال دراسة الدكتوراه، لتحط به الرحال بعدها في بغداد إبان حرب الخليج الأولى وليعيش هناك مواقف محرجة عندما كانت بغداد تقصف من قبل الإيرانيين بصواريخ ليبية.
أصبحت الأرض تضيق بكل ليبي عارض النظام، وغدا الكابوس، كما يقول كافكا، في كون أن لا يجد الإنسان مكانا يهرب إليه في هذه الدنيا الشاسعة، وكان الحنين إلى الوطن المختطف يضيف ألما آخر لكل الآلام. ومع الإفراج عن السجناء فيما يسمى بـ(أصبح الصبح) بدأت فكرة العودة إلى البيت تلح: “لم أسع إلى وساطة في العودة فحالما علمت أن أمر الرجوع ميسر بلا عوائق في تلك الفترة عدت مع أطفالي ومحبوبة إلى وطن تركته مكرهاً وعدت له طوعا” وهي العودة التي يضعها تحت عنوان فرعي “العودة المحزنة إلى الوطن”، وبدأ العمل في مكتبه السابق في مجال الاستشارات القانونية، لكن الشبهة كانت تلاحقه، وفي أول محاولة سفر له إلى الإمارات تم إيقافه من قبل الإنتربول متهما بالاتجار بالمخدرات وسرقة المال العام واغتصاب قاصر، رغم أنه كما يقول لم يتقلد أي منصب في الدولة: “عمدت السلطات الليبية في النصف الثاني من الثمانينيات في محاولة منها للقبض على المعارضين في الخارج واستلامهم إلى ممارسة أبشع عملية تزوير قانوني، حيث تم تجنيد أحد وكلاء النيابة ويدعى حسن القنطري بفتح تحقيقات وهمية مزورة مع قائمة من الأسماء المعروفة بنشاطها المعارض في الخارج كنت ضمنهم، مع غيري من الشخصيات المعروفة: عبدالحميد البكوش، غيث عبدالمجيد سيف النصر، محمد المقريف، علي أبوزعكوك، محمود الناكوع … وغيرهم”.
بعد أقل من سنة من إطلاق السجناء وفي أوائل سنة 1989 بدأت حملة واسعة لمجموعات كبيرة من الشباب ممن عرفوا لدى الليبيين بشباب السنة وكان الطاغية يصفهم بالزنادقة، فبدأ التوجس من جديد لدى الكاتب، والذي لم يطل به المقام حتى اعتقل يوم 13 أبريل 1990، لتبدأ رحلة السجن الثانية المليئة بالألم والعذاب، والتي عايش خلالها أحداث مجزرة بوسليم الشهيرة وتنفيذ الإعدام في جماعة بن وليد، ليروي الكثير من التفاصيل داخل سجن بوسليم الوحشي، حتى تم الإفراج عنه عام 1997 ليستأنف عمله بمكتب المحاماة بعد أن سُمح من جديد بنشاط المحاماة الخاصة.
“كيف عرفت سيف الإسلام” . تحت هذا العنوان يرصد عتيقة تعرفه على سيف الإسلام الذي طلب استشارته عندما كان يفكر في إنشاء مؤسسة خيرية على غرار مؤسسة (زايد الخيرية)، والتي انبثقت عنها جمعية حقوق الإنسان. والتي من خلالها ركز د. جمعة على الملفات الداخلية، وعلى وضعية السجون الرهيبة، وما يعانيه السجناء في ليبيا من ظروف لا إنسانية، ذلك الجهد الذي تمخض عنه إطلاق دفعات كبيرة من السجناء على رأسهم أقدم سجين سياسي: أحمد الزبير، ليترك هذه الجمعية يوم 20 ـ 3 ـ 2007 وهو يشعر بالرضا عما قدمه كما يقول، ليعرج بعدها تحت عنوان: كيف عرفت العقيد القذافي قبل 1969 .
بعد تركه للعمل بالجمعية انتبذ مكانا قصيا وانصرفت اهتماماته ضمن نقابة المحامين ورابطة الأدباء، لتعود خيوط مؤامرة جديدة عبر النائب محمد المصراتي وموسى كوسا رئيس جهاز الأمن الخارجي عبر تلفيق تهمة جديدة (متهم بجريمة قتل والانضمام إلى تنظيم محظور) . ليفرج عنه يوم 17 فبراير عام 2009 قبل انطلاق الثورة الشعبية بعامين بالضبط.
فهل استطاع أن يكتب المناضل جمعة عتيقة مذكراته كما يريد لها حين كتبها والنظام مازال قائما؟ أم أننا في انتظار سيرة أخرى تضيء كل ما سكت عنه، وتقدم لنا حياة وتجربة ثرية ومن منظور متابع ومتأمل وضحية لعقود من الطغيان، وهل ثمة رصد لعرس الدم الذي استمر على هذه الأرض التي ترك الطغيان السابق ألغامه في كل تفاصيلها لتنفجر بعد حين فصّل عمر الدولة على عمره؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى