اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

طقوس الظلام

سالم العوكلي

كان عمري يناهز العشر سنين، وكنت كوبويا صغيرا يرعى قطيعاً من الأبقار في أطراف الجبل الأخضر الذي مازال محتفظاً ببعض أشجار العرعر المتناثرة من بقايا تلك الغابة الطرشاء، وبقايا صهاريج وكهوف رومانية قديمة، كان النهار قائظاً فدخلت إحدى المغارات لأستظل بها، قبو طويل بارد ورطب ومعتم، يضيق كلما تعمقت به. أخذني عند المساء سبات عميق، وعندما صحوت وجدت نفسي في عتمة سوداء، نهضت مفزوعا فاصطدم رأسي بسقف المغارة الحجري، خرجت زاحفاً وركضت مسرعا، وكانت تلك الواقعة أول صدامي مع عتمة بهذه الكثافة، وكانت بداية خوفي من الظلام، كنت أركض هاربا إلى عتمة أقل شراسة حيث بدت الأشياء في وميض الليل كأنها أشباح تلاحقني.

في مساء شتائي كنت نائماً بمفردي في منزلي القديم بدرنة، الذي يرجع بناؤه إلى العشرينات، وأثناء نومي انقطع التيار الكهربائي، وعندما نهضت وجدت نفسي بعد أكثر من ثلاثين عاماً في عتمة المغارة نفسها، شيء واحد كان يختلف، وهو أني أسمع أصوات السيارات في الخارج، فتحت الشباك لأجد العتمة في الشارع أكثر ألفة وطمأنينة مطعونة بسيوف لهبية من أضواء السيارات المتشابكة في الأفق المعتم ، تصبح الحياة بعدها محاولة دائبة لإضاءة العتمة المتطرفة بعتمة أقل ضراوة، من الممكن أن أرى فيها حدود أصابعي ووميضا شاحبا للأشياء اللامعة حولي. في الظلام تتحفز الحواس فتتمدد الشبكية لامتصاص أكبر قدر من الضوء المتاح، وتقوى حواس أخرى كالشم والسمع وتطغى الروائح والأصوات المنسية من الطفولة مجتاحة عالم الصخب الراهن، لكن حاسة اللمس تغدو أكثر فعالية، وتلمس الأشياء لحظة أفولها يغدو هو الضوء الهادي إلى طريق لم تعد في متناول الرؤية.. عندما كنت أركض من المغارة في طريق معتم كانت أقدامي تتلمس درباً خبرته جيداً، حتى لاح لي من بعيد ضوء الفنار المتسرب من ثقوب الصفيح كنجوم بعيدة، كانت الأبقار قد عادت في موعدها، وأمي التي اعتقدت أنني كنت كعادتي عند الجيران لم أحك لها ما حدث ، لكنها لاحظت أني طلبت منها تلك الليلة أن لا تطفئ الفنار، وأغمضت عيني على كابوس: أركض في عتمة لا متناهية على طريق موحلة تلتصق بها قدماي، يطاردني مجهولون يرونني جيداً، وأنا لا أرى شيئاً عداهم، وكأنهم في بؤرة ضوء مسرحية، ومراراً كان هذا الكابوس يتكرر كما هو، وكنت استغرب عدم تكرار الأحلام المرحة في الوقت الذي تعيد فيه الكوابيس نفسها مراراً، وكأنها مسجلة على شريط في الذاكرة.

لم يعد انقطاع الكهرباء المفاجئ مربكا الآن بعد ما استطاعت الحضارة أن تضع ضوءا في جيب كل واحد منا، وسرعان ما ينبثق هذا الضوء من علبة الموبيل الصغيرة التي صار بإمكانها أن تضع العالم وأخباره في الجيب، كما استطاعت أن تضعنا عير هذا الجهاز في قبضة التتبع العالمي الذي أصبح قادرا على معرفة مكانك ومعلوماتك وأسرارك الحميمية عن طريق هذا الجاسوس الأنيق، وحتى الظلاميون استطاعوا أن يستثمروا هذا الضوء المتاح في نشر أفكارهم الظلامية حين يكون الظلام مجازا جديدا لفكر يسعى للعودة بالعالم إلى بدائيته وهو يستخدم أحدث ما وصل إليه العقل الإنساني من ابتكارات.

بعد حكاية المغارة بربع قرن كانت وفود من حجاج الظلام تتهاطل على منطقة “البردي” شرق ليبيا، حيث تم الإعلان عن كسوف كلي للشمس في هذه المنطقة، والكل مترع بفضول مشاهدة الطبيعة وهي تخرج عن نسقها لثوان معدودة، والكل كان متشوقاً لأن يرى النجوم في عز الظهر.

معظم الدعايات التجارية والسياحية، التي تتحدث عن كسوف الشمس، تركز على أن هذا الحدث لن تتاح لك فرصة مشاهدته إلا مرة واحدة في حياتك وإنك محظوظ كون هذا الحدث النادر وقع في الفترة التي تعيش فيها.. لا يتعلق إغراء الكسوف وملاحقة العالم له عبر الأرض بالعتمة التي تحدث وسط النهار لكن المجاز هو الذي يحركنا تجاه هذا الحدث، مثلما يجذبنا صوب الفن. فأن تفاجئك العتمة في الظهيرة، وتلبس الشمس للحظات خمارها، وتغدو قرصاً أسود تحيطه هالة خفيفة من الضوء الخجول، كل هذه صور من الممكن أن تكون من صلب القصيدة، أو بالأحرى يمتلئ بها مجاز الشعر، وشغف الإنسان هنا يتمحور حول فرصة أن يكون أمام المجاز وجهاً لوجه .. أن يتحول المجاز أو الاستعارة إلى واقعة تُلتقط بجانبها الصور التذكارية، ثوان مسروقة من قلب الليل ومنثورة كعينة في عز النهار، والعالم يرحل صوب هذه الثواني قاطعاً آلاف الأميال حيث انفجار العلاقة الفنية بين المكان والزمان. السفر عبر مكان شاسع للتمتع بزمن مقتضب يكاد لا يرى، وفي هذا الزمن الومضة يغدو الإنسان مصلوباً على فرصة حياته النادرة، التي تبدو كتفجير لغوي مكثف عبر نص نثري طويل وركيك إضافة إلى فرص أخرى تجعله يثأر من إمكاناته البسيطة أمام قوة الطبيعة، مستمتعاً بهذا النشاز الأخاذ في النظام الكوني برمته، مثلما يستمتع الشاعر المناوئ بكسر إيقاع شعري ممل ورتيب، تكمن لذة الثأر في إمكانية التحديق بقوة في قرص الشمس المنطفئ أمامه في ذروة ارتفاعه، لحظة ضعف أنثوية تستسلم فيها الشمس الجامحة أمام عيوننا، ولحظة نستمتع فيها بارتباك الكائنات المبرمجة بساعة بيولوجية. تعود الطيور ملتبسة إلى أوكارها لتركن إلى ليل قصير لا يكفي لنفض جناحها. ارتباك هذا النظام ساحر، وضرب الرتابة في صميمها ملهم لنا. قال أحدهم: ما الذي يدفعني لأن أترك أعمالي وأسافر بعيداً لأتفرج على دقيقة من الظلام، والظلام متاح في بيتي بكثافة. وهو هنا، بذاكرة خالية من جاذبية المجاز، يجرد الحدث ويخلع عنه شعريته ، يرده إلى خامة الأسئلة التي تتوخى الجدوى، والسؤال عن الجدوى طاعن للفن في جوهره، وتكفي إيماءة ساذجة للإجابة عنه.

أعود إلى الدعاية التي تتوسل كون هذا الحدث لن تراه إلا مرة في العمر، وكأن كل ما يحدث في حياتنا قابل للتكرار، فلا شيء في عمر الإنسان إلا ويراه مرة واحدة.. وجه أنثى لا يمكنك أن تراه إلا مرة واحدة، وشكل سحابة عابرة أيضاً.. وصورة وجهك في المرآة لا يمكن أن تراها كما هي مرتين، قانون الاختلاف المنبثق من الحركة يجعل كل شيء جديد. ورغم كل شعرية الكسوف التي ذكرت، فإن شفق الشروق سيظل أكثر المشاهد فتنة وإثارة، وأحب أن تحسب حياتي بكم شروق لا أن تحسب بكم كسوف عشته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى