كتَـــــاب الموقع

طقطقة.. علِّم شعوب العالم

فرج عبدالسلام

في زمننا البائس الراهن، الذي لا يبشر ما يجري فيه بالخير، ولأسبابٍ تبدو منطقية للوهلة الأولى، لم يعد الليبيون يستسيغون الحديث بسوء عن نظام سبتمبر السابق، بعد أن أطفِئت شموع فرحتهم، وبعد أن كادوا يحققون أحلامهم كنتيجة طبيعية لثورة فبراير، التي لأسباب عديدة تحوّلت إلى ما يشبه مأساةً مكتملة الشروط أو تكاد، يشهد القاصي والداني على غرابة فصولها وكأنها قد خرجت للتو من تراجيديا إغريقية مُغرقةِ في التشاؤم.

لكن مع ذلك فالتاريخ لا يرحم ولا يُغفِل شيئا أيضا، ويظل شاهدا على ما يقوم به البشر من خيرٍ أو نقيضه.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، ولأنّ تاريخ الشعوب سلسلة متصلة من الحادثات، كل منها يؤدي بالضرورة إلى ما بعدها.

ولمحاولة فهم التراجيديا التي تجري على الأرض الليبية الآن، ينبغي الرجوع إلى الخلف قليلا لتبيّنِ جذور المأساة الراهنة التي تُحيّرُ الكثيرين في ليبيا وخارجها، وكيف تشكّل الورم الخبيث، والظروف التي انتشر فيها.

فمنذ انقلاب سبتمبر 69 أصيب الإعلامَ الليبيّ الذي جرت أدلجته بالمطلق، بسُعارِ الترويج لمقولات وأفكار رأس النظام الجديد، وترديد وتجميل كل ما ينطق أو يفكّر به، والذي كان في مجمله محضَ نُطقٍ عن الهوى، أقلّ ما يوصف به أنه كان لغوا مُرسلا منفصلا تماما عن الواقع المُعاش، حتى إنْ تضمّنت تلك الشعارات التي تضخّها الآلة الإعلامية مفارقات عجيبة ومضحكة وإنْ تكن مبكية في غالب الأحيان. إحدى تلك المقولات العجيبة التي وقف الليبيون عندها طويلا، وتندّروا حولها واستهزأوا بها مرارا (طبعا في جلسات خاصة بعيدا عن عيون وآذان من يُسمّون بالأنتينات) ظلّت تُردّدُ من خلال أغنية شهيرة بعض كلماتها تقول: “يا شعبنا علّم شعوب العالم…” وهي تكرارٌ لخطاب سمجٍ يتردد ليلا ونهارا بأن ما يجري من تحوّلات غريبة على أرض “الجماهيرية العظمى” ينبغي أن تكون معيارا وقدوة لكل البشر في هذا الكون، كي يحتذوا بها ويطبقوها في بلدانهم ليَحظوا بميزة تذوّق النعيم الأرضي الذي يرفل فيه الشعب الليبي العظيم.

بطبيعة الحال، وباستثناء قلّة قليلة مستفيدة، أو مغيّبة طوعاً أو كرهاً، لم تنطو تلك الدعابة الإعلامية السمجة على جلّ الليبيين المساكين الذين كان يعيشون المأساة بكل تفاصيلها، والذين انقلبت حيواتهم رأسا على عقب نتيجة تطبيقٍ أرعن لشعارات مستوردة من اليسار الطفولي في بلدٍ ريْعيّ بامتياز توقفت فيه مسيرة التنمية الحقيقية، وصار العبث السياسي والاقتصادي والاجتماعي شعار تلك المرحلة التي استطالت فأنتجت بالتالي خرابا ماديا ونفسيّا في الأجيال اللاحقة، لا يستحقُّ الكثير من العناء لرؤية حصادهِ الآن. هناك الكثير مما يقال عن تلك الحقبة المظلمة في التاريخ الليبي الحديث مِمّا لا يتسع المجال لذكره في هذه العجالة، حينما حاول النظام المستبد اقتياد القطيع بالسلاسل إلى جنته الموهومة.

لكن ما حدث في تلك الحقبة تذكِرة لنا بأن القول الشائع “ليس كل ما يلمع ذهبا” مثلٌ حقيقي على ينطبق الحالة الليبية، وأنّ الإعلام بأنواعه بالغ الخطورة إذا ما أسيء استغلاله أو فهم وظيفته، حيث نرى في وقتنا هذا ما يكون تمجيدا (بالمفشري) لشخصيات عامة، ومحاولات تبييض صفحتها وتعظيم شأنها، ما يمثل استعادة لتلك الحقبة المظلمة التي أساءت لليبيا ولليبيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى