كتَـــــاب الموقع

طرابلس.. ابنة الحظ العاثر

خالد درويش

لم يفعل الفينيقيون خيرا حين أنزلوا أشرعتهم قبالة سواحلنا وشرعوا في بناء هذه المدينة التي كتب الله عليها الشقاء والمذلة طوال حياتها، لم يفعلوا خيرا حين اختاروها ميناء تجاريا ومخزناً كبيرا لسلعهم وغلالهم ونقطة بحرية مهمة ترسوا فيها سفنهم فتتزود بالمؤن وما تحتاج إليه ولم يفعلوا خيرا حين تفاءلوا وأسموها “أويا” ولم يفعل الرومان خيرا حين تبركوا بقسيسهم بولس وجعلوه عنوان المدن الثلاث بل وقد تناقلت الأخبار أن عمرو بن العاص ندم على زيادته للألف العربية التي وشمها به “أطرابلس”.

كثيرون هم الذين هفت قلوبهم نحوها وهتفت أفئدتهم باسمها، فكانت نتاجهم ونتاج أهوالهم ومطامعهم وتطلعاتهم، تمسحوا بأعتابها ولم يمسحوا عتباتها، كانت بلسما وظلوا ندبة في جبينها، احتملت نزقهم ومراهقاتهم وجنونهم الذي فاق جنون الأولين وزاد على جنون الآخرين، لم يفعل التاريخ خيرا حين عصب رأسها براية الأخت الكبرى فكانت الأم الرؤوم التي ترضع وتهدهد وتقاسي لكي يشب وليدها، فقد كانت تتمنى حياته وعنفوانه وتفني نفسها في خدمته والسهر عليه، كانت أخواتها وشقيقاتها على طول الساحل يأخذن ذهبها ويرمينها بالوحل ويتهمنها بالبهتان، فتجهد نفسها كي تبرئ نفسها أمامهم وتدفع عنها تهم الزور والباطل وأحاديث الإفك، غصة وراء غصة ازدردتها هذه المدينة وهي تخفي دموعها بكم منديلها الأزرق الساحلي، حتى تورمت عيناها الجميلتان وتشقق خدها الأسيل، كم رمتها الأرزاء وابتلها الأدواء بما لا تحتمله الجبال، فقد دكتها على مدار الأعوام مدافع الأعداء وجزت ضفائرها الجميلة سكاكين الأشقاء، كم هي كبيرة وكثيرة تلك المآسي التي هزت قلب طرابلس ووجدانها فكانت بحق مدينة النكبات منذ أول هجوم على قلعتها وحتى وقتنا هذا الذي نعيشه بمراره وعلقمه.

طرابلس التي اجتاحتها الجيوش وعاثت فيها الدبابات والفرقاطات وجُربت عليها جميع الأسلحة منذ ما قبل التاريخ وحتى ظهور الطائرات دون طيار والتي ترتع في سمائها كأنها طائرات ورقية يلعب بها أطفال على شاطئ البحر، طرابلس التي أوغل فيها الرومان وطردوا سكانها حتى حدود الصحراء وجعلوا بينهم وبينها “أحزمة النار” والتي حجبت سكانها عن الساحل والعيش في مناطق الخضرة، طرابلس التي عاث الطاعون بأرجائها مرارا وتكرارا ففتك بنصف سكانها في إحدى المرات، طرابلس التي جاع أولادها فأكلوا جلد الأحذية والذين أوغلت في أجسادهم “الكوليرا” فحصدت الأرواح وأزهقت النفوس. كم من العذابات على مر التاريخ احتملتها طرابلس وحاولت أن تفك ظفائر الحزن وتعود تلك الصبية الفاتنة، كم هي المرات التي خمش أخواتها وجهها كي لا ترى فيها إلا القبح والوساخة، مر على شقائها أتراك عنجهيون جهلة حكموها بالحديد والنار والإتاوات أكلوا خيرها ثم أسلموها لجزازين إيطاليين أوغلوا في المذابح والمشانق وأبادوا السكان بالغاز والأسلاك الشائكة والمعتقلات والنفي، رست البوارج الحربية لتدك قلاعها وتقتل شبابها وتبسط يدها الآثمة، كم عديدة هي المرات التي مخرت الحروب وأهواء الجنرالات أحشاءها فكانت مسرحا لحرب عالمية لم يكن لها فيها من ناقة ولا جمل، فحفرت الدبابات البريطانية رسوم مرورها على طرقاتها وفي ساحاتها وهي تستعرض نصرها على جيوش المحور التي هي الأخرى لم تألوا جهدا في وصمها ببصمات لا تمحى، زمرة من المرتزقة حملوا الصليب من جزيزة لا تتعدى محيط إبرة في مجال تحركها، قدموا من مالطا وأشعلوا فيها النيران تسوروا الأسوار ونقبوا الجدران وأحرقوا كل شيء فوقعت المدينة أسيرة في قبضتهم حتى افتداها أهلها بمساعدة الأصدقاء، خطفت المدينة ولم يبق إلا الرغاطة والفزعة لكي يتم جمع المال وتسليمه للخاطفين، كم هو مؤلم هذا الزمن الذي يمر وكأنه البارحة وكم هي الذاكرة مخيفة وحزينة وشاهدة، فهاهي طرابلس تختطف من جديد على أيدي “فروخ الحرام” كل يغتصب منها عضوا أو ينهش منها جزءا، مؤلم مسلسل التنازلات التي مرت بهذه العصماء العربيدة فكم من مرة أغضت عن حماقة الجهلاء الذين رأوا فيها الجمال منتصبا وحسدوها السؤدد التي حباها به الخالق وتوسطها بر الصحراء والساحل وكونها عاصمة عصمت البلاد من التفرق فأهدت مقاعدها للمتعنتين منحنية بتواضع الأخت الكبري فقط لتمر مسودة دستور أو مشاورات استقلال، مغضية طرفها عن اللمز والهمز فيها وأنها عاصمة وأنها استأثرت بالغالي والنفيس وأن هذه القلاع الصناعية التي ترتكز في جناباتها وتلك المحطات الجبارة للنقل والمواصلات وخطوط المترو وشبكات الري والمواصلات والمطارات التي ليس لها مثيل وناطحات السحاب التي يتمتع بالسكنى فيها أولادها، وكذلك محطات التحلية والمجمعات الكبرى والجامعات والأسواق وغيرها مما لا يحصى، كل ذلك جعل غيرها يغار منها، فما معنى أن تكون في طرابلس كل هذه الإنجازات وتهمش المدن الأخرى.

“طرابلس ما خشتش حرب” كلمة سجلها التاريخ لقائلها وما زالت “أحداث حرق مطارها واختفاء غزالتها في أذهان الطرابلسيين والخطف على الهوية والاغتيالات وتفجير السفارات وترويع سكانها وغزو التتار لها ودوسهم كرامتها وكرامة أبنائها واعتقالاتهم والتنكيل بهم وقمع أصواتهم وأذلالهم بقطع الكهرباء والماء والهواء، أية مدينة عانت مثل هذه المدينة والقمامة تتكدس جبالا منذ الثمانينيات حيث التخريب الممنهج وحتى عهد أمراء الحرب المبجلين، “طرابلس واخذة كل شيء” واخذة الهايك، واخذة على راسها لين طاحوا اسنونها، طرابلس التجويع والعطش كل من هب ودب يمد يده إلى مؤخرتها ويتلمس ما يشاء يفعل ما يريد، مرة باسم التحرير من الطاغية ومرة باسم محاربة المليشيات ومرة باسم الهتاف للجنرال وكرامته، طرابلس التي لم تزل تحت وطأة “البوتيل” العسكرى منذ أن ولدتها أمها على شاطىء البحر وحتى قطع الماء عنها، مالذي فعلته هذه المدينة لكي يحتمل أبناؤها كل هذا فهم خونة وهم طحالب وقفوا مع التاغية وهم “بريوشة” لماذا هذا الاحتلال الكبير الذي لم يشهد له تاريخها مثيلا سيرة من العطب والتشوه تمر بها منذ أن مر الفنيقيون بها ورست سفنهم سيرة الدم والهلاك والاغتصاب والطرابلسيون يحتملون بصبر وارف وكأنهم يكفرون عن جمال مدينتهم وموقعها الذي حباها الله به، سيرة الأقدام التي وطأتها وداست على أشلائها منذ الإغريق وجلافة البدو الهلاليين الذين حرثوها بالملح والأتراك البغاة الجهلة الذين خوزقوا ما تبقى من جلدها، إلى الطليان ووحشية الرجل الأبيض إلى الإنجليز وبلادتهم وقسوة جلاديهم، إلى سياط الفقر والحاجة والذل تحت الوصاية وبعد الاستقلال مرورا بالعاصفة العسكرية التي دامت أربعين عاما وأكثر، ثم الحرب الأهلية الأولى استئناسا بقنابل الحلف الأطلسي التي دكتها سبعة أشهر دون هوادة وسوتها بالأرض، وصولا إلى طوفان البنادق الأحمر والحرب الأهلية القاتمة في دورتها الثانية حيث سقطت طرابلس ضحية الزعامات الكاذبة، فمرة مصراتة وأخرى الزنتان وثالثة ككلة ورابعة حكومة إنقاذ وخامسة نفاد السيولة وعصابة المصرف المركزي وكل ذلك لم يعتبره الطرابلسيون سوى استعمار مثله مثل الاستعمارات السابقة التي مرت بل ربما هذا أشد وطأة لأنه استعمار الأخ لأخيه والجار لجاره، فهل لكم أن تأخذوا عاصمتكن بعيدا وتتركوا لنا طرابلسنا نرمم جراحها بأصابعنا التي قطعتموها كي لا تكتب ضدكم وبألسنتنا التي أخرستموها كي لا تقول كلمة الحق في وجوهكم لله وللتاريخ، سيبولنا طرابلس وديروا عاصمة ان شالله في الصحراء، أطلعوا منها، أطلعوا منها وخوذو المناصب والمكاسب. وردوا المية والضي يا اااااااااااااا.

زر الذهاب إلى الأعلى