كتَـــــاب الموقع

صناعة الطغاة

رفعت المحمد

لطالما اتسمت مجتمعاتنا في الشرق بأنها بيئة خصبة لنمو الطغيان، فهو لا ينبع من فراغ عدمي، وإنما تركيبة معقدة، تنتجها مجموعة من العناصر التاريخية والنفسية والثقافية، يخرج منها نموذج الإنسان الطاغية. وإن كان الطاغية إبّان حياته يستطيع فرض السكوت والإذعان، فإن اللافت هو فعل السحر الذي يمارسه الطاغية على مريديه فيضللهم عن حقيقته؛ ويسحرهم حضوره، فيعميهم عن تبصر معالم ظلمه. وإن كنا نلتمس للمنتفعين من ظلم الطاغية بعض الأعذار في دعمه، والترويج لفكره، فإن أكثر الظواهر إيلاماً هو دفاع المسحوقين عنه، أو المنتمين بدافع العرق أو الدين إلى هالة طغيانه، مسحورين بالصفات التي أسبغت عليهم كأبطال فاتحين في الماضي، أو مناضلين ضد الإمبريالية في العصر الحاضر.

والتاريخ العربي زاخر بصور الطغاة الذين تمر أمثلة ممارساتهم السطوة على أتباعهم دون التكلف عناء التفنيد أو الانتقاد لما تحمله من قسوة وظلم طال المقربين منهم قبل أعدائهم، فكيف لنا أن نمرَّ دون أن ندرك حجم المأساة، على استعباد حُجر بن الحارث لبني أسد وقتلهم بالعصا حين تمردوا على دفع الأتاوة له، أو على تخصيص النعمان بن المنذر يوماً لبؤسه يقتل فيه من يلقاه من الناس أياً كان، وبطش الحجاج بأهل العراق لمعارضتهم له وللخليفة الذي عينه، وليس انتهاء بطغاة العصر الحديث، بدءا بعبد الناصر وآلاف المشانق التي نُصبت في عهده، وعشرات المعتقلات التي غاب وراء ظلامها معارضوه، وليس انتهاء بصدام حسين صاحب المقابر الجماعية ومجازر الكيماوي التي قتل فيها الناس كالحشرات، أو حافظ الأسد في سوريا، والمجازر التي ارتكبها، وأشهرها مجزرة حماة التي دك فيها المدينة على رؤوس أهلها المعارضين لسلطته المطلقة. ولعل المحزن في كل ما سبق دعوات الغفران لبعض أولئك الطغاة، بذريعة دفاعهم ضد الأعداء، حتى ولو كان ذلك كله بشعارات تباع وتُشترى بالمجان.

إن الموقف السلبي للجماهير أو للنخب المثقفة تجاه هذه الحالات من الطغيان، من شأنها أن تشرعن وجوده، بل تمهد الطريق لخلق طاغية جديد قد يكون وريثاً في الدم، أو وريثاً بالفكر الاستبدادي، عبر إحداث تشوهات بذريعة التسامح الثقافي معهم، وهو ما يدجن الضمير العام بل ويسحقه في أحايين أخرى، ويدفع الطغاة عاجلا أم آجلا للإصابة بالنرجسية وجنون العظمة وهوس الانتخاب الإلهي.

وإن كان الطغاة في الغرب، وهم موجودون بكثرة أيضا، يتعرضون للنقد، بل وتقوم الثورات ضدهم حتى لو حققوا انتصارات حقيقية لشعوبهم، فإن طغاة الشرق معصومون بنظر مريديهم عن الخطأ، ومنزهون عنه، حتى لو تجرعوا الهزائم واحدة تلو أخرى، ففي كل مرة ثمة حجج واهية، وثمة احتفاظ بحق الرد تجاه كل الصفعات التي يتلقونها من أعدائهم. وهذا ما يُفسر استماتة كثيرين بالدفاع عنهم حتى بعد موتهم، بل يذهب الأمر أحياناً إلى درجة تقديسهم، وإضفاء مسحة من التأليه عليهم، حتى بعد مقتلهم لا فرق، وهذا ما فعله ويفعله أنصار صدام إذ يطلقون عليه صفات المجاهد والقائد الفذ الذي استطاع أن يحمي الأمة من كل الأخطار المحدقة بها، متناسين كل جرائمه بحق شعبه، بل إن بعضهم يُبرر له ما ارتكبه من أخطاء بأنه قدر إلهي لا يد له به.

ثمة مقولة إن الطغاة هم من يصنع التاريخ، وهي صحيحة بنسبة كبيرة إذا ما نظرنا إلى تاريخ البشرية الذي تمحور حول شخصيات دموية، بينما نسي الناس الكثير من الصالحين أو لم ينالوا حقهم بالشهرة بالقدر ذاته. ويفسر لنا ميلان كونديرا كيف أن “الأنظمة المجرمة لم ينشئها أشخاص مجرمون بالضرورة، بل هم أشخاص اقتنعوا أنهم وجدوا الطريق الوحيد للجنة، وبضرورة جر الملايين إليها غصباً، وهذا ما يتيح للأنظمة الشمولية أن تبني هياكلها على قاعدة من الأفكار والقناعات التنزيهية للذات، وعلى خطاب يُكرس طهارة ونقاء الجماعة المتبنية لهذه الأفكار. انطلاقاً من نازع بشري أصيل يُقسّم البشر إلى (نحن) و (هم)”. ألم تثبت التجارب العديدة على مر التاريخ أن في داخل كل إنسان طاغية ينتظر الظهور، وديكتاتور ينتظر السلطة المناسبة للتحكم بالآخرين، نعم إن الغالبية منا ممن تذم رؤساءها، ستفعل الشيء ذاته حين تصل لذات الكرسي والمنصب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى