كتَـــــاب الموقع

شمس منتصف الليل

عمر أبو القاسم الككلي

في سنة من بداية تسعينيات القرن الماضي، علمت أن صديقا، عشنا معا في زنزانة واحدة مدة حوالي سبع سنوات، سيتزوج. فأحببت أن أحضر فرحه. كان يسكن في مدينة بعيدة، ولم أكن أعرف، من خلال حكاياته، سوى اسم الحي الذي تقيم فيه أسرته.

استقللت الطائرة إلى مدينة في نفس الإقليم، ثم ركبت سيارة أجرة إلى المدينة التي يقيم فيها. كنت مطمئنا إلى أنني لن أتوه. ففي هذه المدن يعرف الناس بعضهم، علاوة على أنني أعرف أكثر من شخص غيره.

المهم، توصلت إلى مكانه. كان البيت الذي يتجمع فيه أصدقاء المقبل على الزواج في قطعة أرض. في الصباح ذهب الجميع إلى أعمالهم وبقيت وحيدا.

جاء كلب وتمدد عند مدخل البيت. ثم جاءت كلبة وتمددت إلى جانبه. شعرت أنني محاصر، وتوقعت أن تأتي كلاب أخرى وتسد علي منفذ الخروج. فتهيأت للدفاع عن نفسي. صففت الكراسي اللدائنية في صفوف متباعدة أمام الحجرة التي أقيم فيها، كي تجد الكلاب صعوبة في اجتيازها، ووقفت عند مدخل الحجرة متسلحا بعصا، دفاعا عن نسي.

لم تحدث مواجهة بيني وبين الكلاب. لكن الحادثة بقيت في ذهني حوالي ثلاثين سنة، وكانت نتيجتها هذه القصة:

وصلت المكان، الحديقة المواجهة لـ “فندق الروضة الغناء” حيث تقف حافلة المطار. كنت عطشانَ، فاشتريت علبة مشروب باردة، من مقهى صغير في طرف الحديقة.

أول مرة في حياتي أزور هذه المدينة لأحضر فرح صديق، وكان الاتفاق أن أنتظر إلى حين يأتيني الصديق أو شخص من قبله.

الوقت أصيل ربيعي. كان الاتفاق أن أجلس في الفندق أو الحديقة. فآثرت الجلوس على أحد كراسي الحديقة قرب المقهى، لأن الطقس كان ودودا، والجلسة في الفندق مكلفة.

العصافير تحوم في فضاء الحديقة في أسراب كثيفة، وتستقر على الأشجار مصدرة شقشقة ضاجة. نشاط ما قبل الظلام.

الظلام يقترب والضوء يتراجع ويشحب، ولم يأت الصديق، ولا أحد من طرفه. بدأ القلق يتحرك. فأنا لا أعرف المدينة، وباستثناء الصديق المقبل على تجربة الزواج، لا أعرف فيها أحدا. وما معي من نقود لا يسندني كثيرا. ولا يمكنني المبيت في الحديقة. ورغم أني من أسرة فقيرة فلم أجرب هذه الأمور. لم أتسكع وأتشرد. بالأحرى، لم أكن مغامرا.

فجأة، وجدت كلبا أمامي. كان من فئة الولف. بسط جسمه على الأرض قريبا مني. لم يبد عداء نحوي. لكنه لم يكن يبدو مسالما. كان يبدو أن جميع الاحتمالات واردة لديه. حاولت ألا أظهر اهتماما به، أو أبدي خوفا منه. ولا أدري إن كان هذا يطمئنه أو يستفزه. لدي خبرة معقولة بسلوك الكلاب وأعرف كيف أتجنب أذاها. ولكن الكلاب العادية، وليس بكلاب من هذا النوع، الذي يبدو مدربا ويعرف ماذا يريد، كما لو أنه في مهمة محددة.

بعد فترة بسيطة قمت، من أجل اختبار نوايا الكلب، قاصدا حمام المقهى، فتبعني حتى مدخل المقهى. حين خرجت وجدته في انتظاري. اتجهت إلى مكاني السابق، فتبعني، وحين جلست، بسط جسمه بمكانه الأول وبنفس الوضعية وأخذ يراقبني بتنبه أكثر وضوحا.

ازداد قلقي، بسبب تأخر قدوم أحد إلي وبسبب سلوك الكلب، واستشعرت دبيب الهواجس في نفسي.

الحركة في الحديقة خفيفة. وحين اختفت الشمس خلف البنايات تاركة فتات ضوء، ندرت الحركة.

ظهر كلب آخر وجثم على الأرض موازيا الكلب الأول، على مبعدة منه.

جاء النادل. حياني ثم سألني إن كنت أريد شيئا. شكرته. عرض علي أن يأتيني بساندوتش ومشروب على حساب المقهى. شكرته مجددا، رغم أنني صرت أشعر ببعض الجوع. طلب مني ألا أتردد في طلب ما أحتاج منبها إلى أنني أبدو غريبا عن المدينة ولذا فيمكنني أن أعتبر نفسي ضيفا لديهم. فشعرت بالاطمئنان. وهذا جعلني أسأله عن وجود الكلبين مبديا مخاوفي. قال:

– لا تخشَ شيئا. لن يؤذياك، إلا إذا تحرشت بهما. إنهما يحرسانك.

واستدار مسرعا. النبرة المريبة في جملته الأخيرة، أعادت إليَّ هواجسي.

ساد الليل تماما وانعدمت الحركة في الحديقة واكتشفت أنني أصبحت محاصرا (أو محروسا، على رأي النادل) بالكلاب. فإضافة إلى الكلبين السابقين الرابضين أمامي، ثمة كلب على كل جانب وكلبان خلفي. شعرت بغرابة الوضع وأنني بصدد المرور بخطر غامض.

أشعر بالبرد والجوع أيضا، وخشيت أن أتحرك فأتعرض لمهاجمة حراسي الكلاب.

جاءني النادل مرة أخرى. قال لي:

– تعال معنا، ما دام ليس لك مكان تذهب إليه.

كانت نبرته آمرة، أكثر مما هي داعية، وإن لم تكن فظة. فنهضت مستجيبا للأمر.

سار أمامي وسرت خلفه محاطا بالكلاب. دخلنا بناء المقهى البسيط. أشار إلى منضدة خالية، فجلست إليها.

بعد فترة أحضر لي ساندوتشا وزجاجة مشروب غازي.

– لا بد أنك جائع. نحن لا نرضى أن يجوع لدينا أحد.

لاحظت أنه لم يستعمل لفظة “ضيف”.

التهمت (بمعنى الكلمة) الساندوتش، وتجرعت المشروب.

حين انتهيت جاءني:

– سننتقل الآن إلى مكان آخر.

سرت خلفه محاطا بالكلاب أيضا. نزلنا، هو وأنا والكلاب، سلما حجريا. دخلنا ممرا تحت الأرض. أعتقد أننا عبرنا الشارع الذي فوقنا.

ثم دخلنا قاعة صغيرة عارية، إلا من منضدة وكرسيين.

– اجلس.
نبرة الأمر في صوته نقية لا شائبة فيها.

جلست. جلس على الكرسي المقابل.

– والآن، لنكن صريحين وواضحين ولا نتعب بعضنا: لماذا جئت؟!.

– جئت لأحضر فرح صديق.

سألني عن اسمه، فأجبته.

قال:

– نعم. هذا السبب الظاهر، الواجهة. لكنني أسأل عن الوجه الحقيقي. عن “الباطن” مثلما تقولون أنتم المثقفين. أنت مثقف وملم بهذه المسائل. نحن أيضا، على عكس ما تعتقدون، أيها الأغبياء، مثقفون. لكن أهدافنا مختلفة.

قلت في نفسي الآن أنت معتقل وستمر بمرحلة تعذيب، فلم يعد يخيفك شيء. قلت له:

– نعم. في الظاهر أنت نادل في مقهى. ولكن في الباطن أنت شخصية أمنية. وفي الظاهر هناك مقهى في الحديقة، لكنه في الباطن مكتب أمني.

– نعم. تعجبني نباهتك. لكن أيضا، أنت في الظاهر جئت لحضور فرح صديق. لكن في الباطن، أنت جئت لحضور اجتماع حزبي تحت غطاء الفرح. إذن، كلانا لدينا ظاهر وباطن. ومهمتنا اكتشاف الباطن خلف الظاهر. لقد قبضنا على معظم أعضاء التنظيم، بمن فيهم العريس، ولقد اعترفوا بوجود التنظيم وأدلوا باسمك. وإذن، فلا داعي للإنكار. وإلا فسنريك النجوم في عز الظهر.

قلت له:

– الظهر مازال بعيدا. فدعني الآن أنام براحتي حتى ظهيرة الغد، كي تريني النجوم.

عندها استشاط غيضا. ضرب المنضدة اللدائنية الخفيفة بقدمه فانقلبت. قال:

– رؤية نجوم الظهيرة ليست ضرورية، يمكن أن نريك الشمس بعد منتصف الليل.

لم أعرف بماذا أجيبه. خانتني بديهيتي.

رفسني بقدمه في صدري، فوقعت على البلاط. أخذ يركلني، وهاجمتني الكلاب، فاتخذت وضع الجنين في محاولة لاتقاء الركلات والعض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى