مقالات

“شمس على قبور مفتوحة”

أنيس فوزي

ودّعنا سنةً غريبة مليئة بالتناقضات و”صحّة الوجه” وحافلة بالإنجازات الإرهابية لدى أصحاب الأوهام المتراكمة. ففي آخر يوم في شهر أغسطس الماضي وتزامنًا مع عيد الأضحى انقلبت مواقع التواصل الاجتماعي رأسا على عقب، مناشير وتعليقات وتصريحات وخطابات رسمية ودينية، حتى صارت الأمة الليبية كلها تتحدث عن كتاب “شمس على نوافذ مغلقة”، حيثُ أثارت حفيظتهم مقاطع من رواية “كاشان” لأحمد البخاري، داخل كتاب به أكثر من عشرين كاتبا وكاتبة، وبموضوعات مختلفة، وتم اقتباس وتصوير مجموعة من العبارات مقطوعة من سياقها، وإشهارها بعنف في وجه الكاتب وزملائه والمشرفين وحتى على المتعاطفين معهم. أما في نفس السنة، وفي آخر يوم فيها، تعرّض قبر السيد محمد المهدي السنوسي (والد الملك وحفيد المؤسس) إلى النبش والتخريب من قبل جهة معروفة لها شرعية رسمية، تصرفت بشكل إرهابي بشع مع واحد من أهم رموز هذه البلاد وعَلَم من أعلامها. لكن يبدو أن دعاة الشرف والوطنية والنزاهة، أصحاب الدم الحامي والعادات الشريفة والتقاليد الحميدة، دعاة الطهارة والسماحة والوسطية، يبدو أنهم كانوا يقضون ليلة رأس السنة غير آبهين بما يحدث من ورائهم، وتركوا الوطن والعابثين به بدون خطابات ولا استنكار، بل إن بعضهم تكلّم عن حرمة معايدة المسيحي، وعدم جواز الاحتفال برأس السنة، وآخرون تحدثوا عن فضيلة طاعة ولي الأمر وإرضاع الكبير وغيرها من مواضيع مملكة بيزنطا المشهورة.

إلاّ أن ما لفتني حقًا، وجعلني أطيل النظر في واقعنا وسوء صنيعنا، هو وجود أشخاص وضعوا تبريرات لا تنتهي على صحة هذا التصرف وسلامة الذين قاموا به من أي خلل عقائدي أو نفسي أو إنساني، واعتبروا هذا الفعل عاديًا وأنه ليس مسيئًا لنا وللتاريخ، وأن هدم القبور واجب ديني أصيل، ونبشها مثله مثل الصوم والحج والزكاة والصلاة، وأن الليبيين في ضلال مبين ولا يعرفون الله ولا دين الله، وأنهم أتوا –أي السلفيين- من القرون القديمة حتى يعيدوا العقيدة ويستعيدوا الخلافة والمجد، لكن هذه المرة ليس في صفوف مجموعة من الهُبل على الجبال كتنظيم القاعدة، ولا مجموعة دولية منظمة مثل تنظيم داعش، بل عن طريق منبع الإرهاب الأول، وجهة رسمية في الدولة الليبية، وعن طريق قادة وخطباء يكتبون ويقولون كل يوم شيئًا عن أفكارهم التكفيريّة والمتطرفة دون حسيب أو رقيب.

إن مجتمعًا تثيره كلمات مكتوبة في رواية على لسانهم، ولا تثيره كلمات تريد القضاء عليه هو مجتمع قد يُسمّى متناقضا وقد يُسمى متخلفا أو سمّه ما شئت، لكن مجتمعًا لا تثيره أفعال تقضي على نسيجه وشكل حياته وهويّته ولسانه ومظهره ومعالم بلاده (وتقضي على حياته) فهو بالتأكيد مجتمع فشل في تبنّي قضاياه، وبالتأكيد لا يعرف موقعه ولا يمكن أن يعرّف نفسه وبلده وهويته بكلمة واحدة، مجتمع ضائع ومشوّش.

فقد مرّت عليه خلال سنوات قليلة مناهج وأفكار متطرفة عديدة، تبنّاها جميعها بدون تفكير أو تحليل، ثم تراكمت هذه الأفكار عليه حتى صار المجتمع خليطا من الكراهية والعنف والتطرف. – مجتمعا مستعدا للفضيحة والتشهير والفتنة والكراهية، ينهش لحم أي مواطن ضعيف سواء كان رساما أو شاعرا أو مطربا أو موظفا أو إعلاميا بل وحتى متدينا وسطيًا، يقضي على سمعته وعلى عمله وعلى أحبابه ووقته وحياته من أجل تبريرات متحجرة سخيفة من عقول متخشّبة نَحتَ عليها النحاتون أفكار الظلام. بينما لا يتكلم (المجتمع الأفلاطوني الفاضل) على أفعال أصحاب السلاح وأصحاب القوة “خوفًا” أو “اقتناعا” –لا يهُم- فما يحدث يشرح نفسه، وإن التاريخ يسجّل فترتنا الذهبية هذه، الحافلة بالتخلف وقلة الاحترام وانعدام الإنسانية وعدم الشعور بالآخر ولا الاكتراث بحياته، وسيدوّنها في أكثر صفحاته تفحّما وقتامة، وسنكون أفراد مجتمع سيء السمعة في فترة أقل ما توصف به أنها “بشعةُ الرعب”.

أيّها السادة، قبل أن تموتوا –هذا إذا كنتم تسمّون ما يحدث معكم حياةً أصلاً- احفروا قبوركم بعيدا، في أماكن مجهولة، فالموت لن ينجيكم من جهل النبّاشين ومن ذلّهم وسطوتهم الغشيمة، الموت لن يوقف معاناتكم ولن يفرّ بكم ويريحكم، بل إن دولة النبّاشين باقية وتتمدد، ستفتح قبوركم وتأخذ قصتكم وتحرقها، ستسرق بصمتكم وعصعصكم وجماجمكم وترميها في القمامة، فهؤلاء وحدهم الناجون من النار، وحدهم الفاضلون العابدون، وحدهم المحترمون، وحدهم الذين يستحقون الحياة بيننا، أما نحن، فما سيحدث لنا مجرد شمس على قبور مفتوحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى