كتَـــــاب الموقع

شكوى وشكبنة ليبيتان

سالم العوكلي

شكبنة:

حين وصلت الحلول السياسية، في ليبيا، إلى طريق مسدود، بدأت الحلول العسكرية والتي بدورها وصلت إلى طريق مسدود، فعادت محاولات الحلول السياسية إلى ما قبل المربع الأول، ومن المكان نفسه، ضواحي الرباط وُقع فيها اتفاق الصخيرات.

غير أنه مثلما حَرمتْ كورونا جماهير كرة القدم من الحضور إلى الملاعب والتشجيع، حَرَمتْ الجماهير الليبية من المشاركة في الحلول السياسية التي احتكرها أطراف غالبا لا يمثلون الشارع ولا حتى الزنقة الليبية، مع الحرص على تطبيق احترازات كورونا وأهمها في حالة ليبيا التباعد الاجتماعي وحتى التباعد السياسي.

ممثلو مجلس النواب في مفاوضات بوزنيقة، ورغم كل السوء في الأداء، إلا أننا نستطيع أن نقول إنهم منتخبون ويمثلون ناخبيهم وفق الإعلان الدستوري، بينما الطرف الآخر، أعضاء المجلس الاستشاري الأعلى للدولة، غير منتخبين ومجلسهم غير دستوري، وهم مازالوا يعملون تحت شرعية فرض الأمر الواقع، وإذا ما جادل أحد بأنهم بقايا المؤتمر الوطني المنتخب، فإن ولايتهم انتهت وحين قرروا تمديدها خرجت مظاهرات رافضة في كثير من المدن الليبية، بمعنى أنهم مرفوضون من الشارع الليبي ولا يمثلونه بأي حال من الأحوال، بل والأنكى من ذلك أن الأعضاء المشاركين في بوزنيقة يمثلون جماعة واحدة مصرة على أن لا تخرج من المشهد حتى بعد خسارتها لثلاثة انتخابات متتالية.

لذلك تمنيت لو أن الحوار كان بين أعضاء مجلس النواب المداومين في طبرق وأعضاء مجلس النواب المقاطعين، باعتبارهم جميعا يمثلون آخر سلطة تشريعية منتخبة، والأهم من ذلك إتاحة الفرصة لتجاوز الخلافات وإعادة هذا الجسم الشرعي للعمل وفق نصابه القانوني تحاشيا للفراغ السياسي وللانقسام، وحتى يكونوا قادرين على إدارة المرحلة الانتقالية وفق مخرجات الحوار السياسي، لأن مجلس النواب هو الجسم الوحيد المخول بذلك. لا يخلو هذا الكلام من شكبنة، لكن ليس كل شكبنة خلوا من المنطق.

الشكبنة في اللهجة الليبية هي إعادة خلط الأوراق حين يظهر أن الحوار لن يفضي إلى حل مقنع وجذري كما يحدث في المواعيد الشعبية الليبية، لذلك يتدخل شخص مختص ويخلط الأوراق من جديد ويسمى (شكبان).

شكوى:

أشاهد هذه الفترة الكثير من المقاطع ومن الإدراجات التي تتحدث بتفاصيل مضجرة عن تقصير أو عجز المؤسسات الطبية في تعاملها مع جائحة كورونا، وهي مقاطع تعكس مدى ولع الشخصية الليبية بسرد تفاصيل المآسي وأحيانا المبالغة فيها كي يزيد تأثيرها. كتب الصديق الأديب أحمد يوسف عقيلة إدراجا يتعلق بهذا الميل: “يُحيّرني تلذّذ الكثيرين بسرد تفاصيل الفواجع”.

وسأذكر بعض التعليقات على هذا الإدراج التي تحاول تفسير هذا الميل الذي ينبع من كون الشخصية الليبية شخصية شكّاءة ، وتجد متعتها في التركيز على الجوانب المعتمة من الوقائع أو نفخها وتضخيمها كي تكون أكثر تأثيرا.

تعلق جود المنصوري: “كأنهم يكسبون من وراءها….وكأنهم يخافون أن يسبقهم أحد في نقلها….وكأنه لا ينقصنا شيء سوي الفواجع ولسنا من يعيشها”.

أحمد الكلوش: “القصص الحزينة أكثر قبولا ..”.

الكاتب إبراهيم حميدان: “خاصة اللي يحكوا على حوادث السير بالتفصيل الممل.”.

عبد الباسط صالح يونس: “فعلا .. يخبرك أن فلانا مات .. وحين لا يجدك متأثرا كثيرا .. يقول إنه أقرب الأبناء إلى أمه . وأنه ينتظر مولوده الأول.”.

أحمد الصاوي: “أحيانا، يتخذ سرد هذه التفاصيل شكل التنفيس عن ألم فظيع يحسه قائلها، فهو بهذا الشكل يعد بوحا من المرء لنفسه، يقوله بصوت عال..دون اهتمام حقيقي باستماع الناس له من عدمه…بوح..يعذب فيه نفسه…لكنه ضروري كي لا يتحول الهمس بداخل عقله المتعب لصرخات هادرة مجنونة.”.

ريان ريان الحاسي: “فعلا. وهم أكثر خطرا من الفايروس نفسه لأنه تهيئة للمرض بكثرة القلق والخوف..”.

وما دمنا في سياق الحديث عن القطاع الصحي وعن وباء كورونا الذي يرى البعض أنه كشف الغطاء عن إمكانيات هذا القطاع، لاحظت أن معظم المقاطع والإدراجات التي أطلعت عليها تهين العاملين في هذا القطاع، دون أن يدرك البعض ما مر به القطاع، وما مازال يمر به الصامدون في قطاع الخدمات الصحية العام، طيلة سنوات الجنون الفائتة، حيث توالت جوائح الحروب والإرهاب ثم كورونا على عاملين في خط المواجهة لا يملكون أي إمكانات أو حماية من العدوى ومن الاعتداءات.

في العموم تزعجني هذه المقاطع، وقد يكون أصحابها متألمين، غير أنها تفضي في النهاية عبر ما يتبعها من تعليقات إلى اتهام حشد عامل في هذا القطاع ومحاكمته والحكم عليه وعقابه دون حتى أن يُعطَى فرصة للدفاع عن نفسه. وهذا ما يدفعني لأن أذكر ملاحظات تتعلق بهذا القطاع لابد من أخذها في الحسبان:

القطاع الصحي يعاني منذ عقود طويلة، وحتى عندما كانت ليبيا كما يقول البعض مستقرة، وعندما كانت تبيع النفط بأعلى أسعار يجعلها إحدى أغنى دول العالم، كانت الخدمات الصحية في الحضيض، ومنذ الثمانينات كان الليبيون طوابير على مستشفيات مصر وتونس والأردن عندما تردى هذا القطاع وفقد المواطنون الثقة فيه. ليس الثقة في عنصره البشري، ولكن في بنيته التحتية، ومعداته وأدوات التشخيص الدقيقة، أو إمكانات غرف العمليات والعناية التي كان معظمها قديما ولا تساعد الطاقم الطبي. في بعض الفترات كانت أدوات الحقن (الإبر) تستخدم أكثر من مرة نتيجة فقدانها من المستشفيات والمستوصفات والسوق.

أما فيما يخص هذه الجائحة والتي تتركز الشكوى الآن من ردود فعل هذا القطاع تجاهها، فإن الطواقم الطبية لا تملك أي إمكانات للتعامل معها، خصوصا فيما يتعلق بالملابس الخاصة التي تحمي العاملين من انتقال العدوى، بينما المستشفيات المتهالكة وأقسام العزل وعدد أَسِرّة غرف العناية فحدث ولا حرج. العامل في القطاع الطبي إنسان ، وليس بمنأى عن الخوف من هذه الجائحة، ليس الخوف على نفسه فقط ولكن على عائلته وأولاده، فكثير منهم عمل تحت القذائف وفي قلب الرصاص الذي كان يطلق داخل المستشفيات لأنه يدرك إذا ما أُصيب أو قتلته رصاصة طائشة أو شظية فسيكون هو الضحية فقط، أما في حالة كورونا فيدرك أنه إذا ما أصيب بالعدوى فسيكون أولاده أو أسرته ضحية معه. لذلك فحال العاملين في هذا القطاع شبيه بحال الجنود الذين تبعثهم إلى الجبهة دون سلاح ودون سترات مقاومة للرصاص ودون خوذات ودون منظومة اتصال.

العام 2018 عايشت معاناة هؤلاء العاملين عندما كنت مرافقا لأحد أقاربي في مستشفى الجلاء في بنغازي. كانت الجدران الداخلية مليئة بثقوب الرصاص، وكثير من الزجاج مهشم بينما الطواقم الطبية تركض في كل اتجاه حيث هذا المستشفى يستقبل ضحايا حوادث السير في إقليم كامل تقريبا سكانه أكثر من مليون، فضلاً عن المصابين في المعارك أو بالرصاص الطائش أو الألغام. ورغم ذلك كل من يُحضر حالة يعتقد جازما أن حالته هي الوحيدة، وكانت المشاجرات تحدث أمامي باستمرار، والاعتداءات وتهشيم الزجاج، وأحيانا تهشيم بعض الأجهزة والمعدات الطبية، وحاولت مرارا أن أتحدث مع بعض الشبان الغاضبين، وأن أُفهِمهم أن هؤلاء العاملين في القطاع العام متاح لهم أن يبقوا في بيوتهم مثل الكثيرين في كل القطاعات، ولا أحد يستطيع إيقاف رواتبهم لأن الجميع مسلح، ومجرد أنهم يداومون في هذه الظروف فهذا يستحق الثناء. وحين سألت طبيبا عن ثقوب الرصاص قال لي: كنا طيلة سنوات نعمل في هذه الظروف. يبدأ إطلاق الرصاص داخل الأقسام فنأخذ جميعا وضع انبطاح وحين تهدأ الأمور ننهض ونعمل من جديد ولا أحد يحمينا. أما في الممرات المكتظة بالزوار طيلة 24 ساعة فلا أحد يستطيع أن يمنعهم من الزيارة في غير أوقاتها، كما تنتشر ظاهرة التدخين في الممرات وحتى داخل غرف الإيواء والإنعاش، فتمتلئ الممرات بالنفايات وبأعقاب السجائر، وأمامي حين طلب أحد العاملين من شاب إطفاء السجائر مسك بتلابيبه وكاد يضربه فانسحب بهدوء.

يبدو أني تورطت في سرد تفاصيل الفواجع التي يتعرض لها هذا القطاع، لكن ما ذكرته نزر يسير من معاناة العاملين في المستشفيات الليبية العامة. والفارق أنهم لم يسجلوا مقاطع يسردون فيها شكاواهم كما يفعل ضحايا هذا القطاع الذي هو ضحية فوضى جماهيرية قديمة، وثقافة لم تحترم الحياة الإنسانية كرسها نظام تغزل رأسه مرة في إحدى الدول الأفريقية بالأوبئة التي تحمينا من الاستعمار، ونشر مرض الإيدز في مستشفى الأطفال ببنغازي، وفتح كليات للطب البشري حتى في القرى دون معامل أو مكتبات أو أعضاء هيأة تدريس ضمن سياسة تفكيك الجامعات الأمنية.

لا أملك في النهاية إلا أن أقدم كل التحية للعاملين في ظروف صعبة جدا في قطاع الصحة العام، ولشبيبة الهلال الأحمر لكل ما قدموه من عمل إنساني وسط المخاطر، وللفنيين العاملين في شركة الكهرباء الذين نراهم معلقين في الأعمدة تحت الريح والمطر وأحيانا تحت القذائف كي يحافظوا على وصول النور إلى البيوت إلى شعب معظمه لا يدفع فاتورة الكهرباء، وفي الوقت نفسه لا يكف عن الشكوى من انقطاعها في مفارقة غريبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى