مقالات مختارة

سيكيوزمي

سالم الهمالي

حطت الطائرة بسلام في مطار روما لرحلة الخطوط الليبية (118) من مطار طرابلس العالمي، وكعادة الليبيين نهضوا جميعا هبة واحدة بمجرد أن ارتطمت عجلاتها بمدرج المطار، (إلا ثلة قليلة قلع ملام)، ساد الهرج والمرج واختلط الحابل بالنابل، هذا متجه للخلف يبحث عن حقيبته والآخر عكس اتجاهه ويده ممدودة إلى مخزن الحقائب، يؤشر: بالله الشنطة الكحله يا شبّوب !.. المضيفة تعيد وتكرر:

– الرجاء من حضرة السادة الركاب البقاء في مقاعدهم، التأكد من ربط الأحزمة حتى تتوقف الطائرة تماما وتطفأ محركاتها.

أخذت الطائرة طريقها عبر المدرج حتى وصلت كابينة النزول، وما توقفت تماما وأطفأت محركاتها حتى زاد الهرج والمرج، جلبة من الأصوات (عطيني الشنطة، نزل الساكو، ممكن نؤخر، وو…) تدافع ونطيط على الكراسي، …. افتح التكييف يا كابتن، وإلا افتح النوافذ … انطبخنا راه!!

انفتح باب الطائرة ورجال الأمن في استقبالها، بملابسهم السوداء وقبعاتهم الحديدية وأصابعهم على الزناد، خرج الركاب على دفعات، وكأن الطائرة تقذفهم، لا شكل يوحي بهيئة طابور ولا حتى أي شيء قريب منه، جمهور يتقدم دفعة واحدة إلى صالة الجوازات، أمام الكابينات انتظموا على شكل دائرة إلا شطر … هنا، تقدم رجل الأمن نحوهم وأشار بهزة رأسه بما يفهم منه؛ خذ مكانك في الطابور …

بشيء مِن التلكؤ انتظموا، ليس طابورا بالمعنى الصحيح لكن لنقل طابورا مزدوجا، وأحيانا ثلاثي الأبعاد … إلا أن رجل الأمن يبدو أنه تضايق من تنطيط بعضهم من طابور إلى آخر، كلما تعطل طابورهم بعض الوقت أو رأوا طابورا آخر أكثر سرعة، عندها أشار بشكل صارم: مد ذراعه وأفرد إصبعه السبابة مشيرا إليهم بالعودة إلى أماكنهم.

على هذا الحال .. تقدم بطيء، ليس غريبا لما يواجه الليبيون أينما ارتحلوا .. والحوار بينهم ليس في ذات الطابور، بل من رقم ثلاثة إلى ثمانية .. انتظرني عند الشناطي يا وسام .. والآخر: بالله ما تخليني بروحي ما نعروفش نحكي طلياني !!…

عندها، تقدم الصفوف شخص منتفخ الأوداج وصدره أمامه كالطاووس، يلبس برطيله ويلتحف جلابية خليجية فوق ملابسه الإفرنجية، نظارة سوداء وحقيبة سامسونايت تماثل لونها، إذ تراه تظنه يذرع شارع ميزران أو يقطع ميدان الشهداء … من وجهته، واضح أنه يقصد كابينة الجوازات!

كل من في الطابور ينظرون إليه بشيء مِن الريبة، بالتأكيد لم ينسوا أنه كان سببا في تأخر الرحلة لأكثر من ساعة، ينتظرون إطلالة سيادته، وطقم الضيافة بادية عليهم علامات الضيق والضجر، لكن لا أحد … لا أحد تفوه بكلمة ..

آسف، الحقيقة، أن هناك عددا كبيرا تكلموا بصمت في صدورهم أو همس لا تسمعه حتى ذبابة الحائط، خصوصا بعد أن شاهدوا (اللبوة) تخرق أرضية المطار ومعها أخريات حتى توقفت تحت سلم الطائرة، ترجل منها بعد أن فتحوا له بابها، أحدهم يحمل الحقائب وآخرين يكشحون الهواء عنه، ركب السلم حتى وصل بسلامة الله إلى كرسيه في الصف الأول من الدرجة الأولى.

ما كان لهم أن يعرفوا عنه شيئاً لولا ما أفشاه المضيف، بأنه أحد ضباط (الكتيبة)، … لا تسألوني عن اسم الكتيبة أو رقمها، نسيت ياللأسف الشديد!!

على مسافة متر أو أقل من كابينة الجوازات، أشار إليه رجل الأمن بإشارة صامتة، مد ذراعه وبحركة فيها صرامة واضحة توجه أصبعه إلى آخر الطابور … بالتأكيد انتبه للإشارة ، وإلا ما نظر لرجل الأمن وجوازه في يده، أحمر اللون، قائلًا: سيكيوزمي!

لا أعرف هل أن رجل الأمن تعمد أن يتجاهل السيكيوزمي أو أنه لم يفهم اللغة التي يتحدثها، إذ أعاد نفس الحركة، لا سلام ولا كلام … أصبع يشير إلى آخر الطابور.

تململ الرجل، يد تقبض على السمسونايت والأخرى مدت الجواز الأحمر أكثر اقترابًا من قبل، حتى أضاف رجل الأمن إشارة أخرى على حاجبيه، مضمونها يؤكد اتجاه الأصبع … آخر الطابور.

على مضض لملم جلابيته التي انسلحت على كتفيه من كثرة مد ذراعه، وجرجر أقدامه ينظر بخبث إلى الطوابير المليئة بالنظرات اللئيمة، … فمه يتمتم بكلمات صعب استبيانها، لكن يمكن تخمين أنها ليست طيبة على أي حال.

حظه العاثر أن لا أحد في مطار روما تعرف عليه، لا شيء ينبئ أنه يختلف عن الآخرين، حتى اللون الأحمر لم يفلح أن يعرف به … “شلبك”، كانت آخر ختم جوازات لتلك الرحلة، منها أخذ طريقه إلى صالة العفش (الشناطي) وعلامات الغضب تتفصد من وجهه.

أحد الركاب من بين جمهرة أخرى حول سير الشناطي صاح بأعلى صوته:

– سيكيوزمي وسام، حلوه فيك !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى