مقالات مختارة

سلطة المذيع في العالم العربي

محمد شومان

سجلت السنوات الأخيرة تنامياً مثيراً ومراوغاً لمكانة ودور المذيع أو المذيعة (مقدمي البرامج) في قنوات التلفزة العربية، المحلية والعابرة للحدود بين الدول العربية. بعض المذيعين صاروا نجوماً وهو أمر مفهوم ومبرر في كثير من دول العالم، لكن نجومية بعض المذيعين العرب دفعتهم إلى لعب أدوار سياسية ودعائية تتجاوز الأعراف والقواعد المهنية المعروفة في الإعلام، فظهر المذيع أو مقدم البرامج العربي كأنه الخطيب أو الداعية الذي يتحدث إلى الجمهور مباشرة ومن دون وجود ضيوف أو أسئلة، من أجل إقناعهم بفكرة أو تبني موقف سياسي، وظهر أيضاً السياسي وأستاذ الجامعة ولاعب الكرة الذي تحول إلى مذيع من دون تدريب أو معرفة بالقواعد المهنية، كما ظهر المذيع الذي خاض الانتخابات واستغل برنامجه التلفزيوني للدعاية لنفسه.
المذيع أو المذيعة في كثير من قنوات التلفزة العربية والبرامج تناسى دوره ووظيفته الأساسية وتحول إلى خطيب ومصلح اجتماعي، وسياسي، وخبير استراتيجي، ومفكر، يتحدث في كل شيء، وعن أي شيء من دون ضوابط أو معايير، لذلك يخلط الرأي بالخبر، ويهاجم من يشاء أو يدافع عمن يريد من دون رقيب أو حسيب. والسؤال هو: من أين يستمد المذيع مقدم البرامج كل هذه السلطة التي تمكنه من اختيار أي موضوع أو قضية ليتحدث فيها بمفرده ومن دون دعوة ضيوف أو وجود خبراء معه؟ وإذا دعا ضيوفاً للظهور معه، فهو الذي يختارهم، ويطرح عليهم الأسئلة، ويوزع عليهم الوقت، ثم يتحدث غالباً أكثر منهم. أما إذا اختلف أحد الضيوف مع رأي المذيع فإنه يضيق به ويهاجمه على الهواء، ثم يقوم بمعاقبته وعدم دعوته مرة ثانية في برنامجه الذي يتوهم أنه الأهم والأكثر جماهيرية.
إن سلطة المذيع العربي تبدو مطلقة لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، فهي مستمدة من سلطة الميديا وتحديداً التلفزة وانتشارها الواسع، كما أنها مستمدة أيضاً من سلطة الدولة والأحزاب ورجال الأعمال والشركات الرأسمالية التي تملك وتدير قنوات التلفزة العربية، ومع ذلك فإن المذيع يحاول أن يصنع سلطته الرمزية ويظهر كفاعل مستقل، لكنه فاعل من ورق إذا جاز القول، فقد ظهر نجوم كثيرون في التلفزة العربية ثم تلاشوا بعد أول صدام مع السلطات الحقيقية التي تملك وتدير التلفزة العربية. اختفى مذيعون نجوم، وأُبعِدوا عن الشاشات، وسرعان ما نسيهم الجمهور الذي يمتلك مشاعر متقلبة جداً وذاكرة ضعيفة للغاية.
وثمة خمسة مداخل يمكن تقديمها لفهم وتفسير هذه السلطة المراوغة للمذيع أو المذيعة في التلفزة العربية:
– المدخل الأول يعتمد على نظرية التمثيل: حيث تفترض أعراف وقواعد صناعة التلفزة في العالم أن المذيع يكتسب سلطته باعتباره ممثلاً للرأي العام أو على الأقل لقطاع منه، خصوصاً أن هناك قياسات منتظمة لنسب المشاهدة ولآراء الجمهور في البرامج المختلفة والمذيعين، وبالتالي تتوافر مؤشرات شفافة عن أداء كل مذيع ونسب المشاهدين الذين يتابعونه، ومن ثم مدى تمثيله لقطاع من الرأي العام. لكن للأسف الشديد لا توجد في الدول العربية قياسات دقيقة وشفافة عن نسب المشاهدة لكل برنامج ومدى جماهيرية كل مذيع، ما يترك المجال أمام كل قناة أو مذيع لإطلاق ما يشاء من أحكام وأكاذيب عن شعبيته الواسعة وأنه صاحب البرنامج الأكثر انتشاراً وتأثيراً … إلى غير ذلك من المبالغات التي يطلقها المذيع عن نفسه وتشارك القناة سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص في الترويج لها، على اعتبار أن هذه المبالغات قد تساعد في جذب المعلنين، وزيادة دخل القناة.
– المدخل الثاني ينطلق من فكرة ضعف المجال العام وحصار العمل السياسي الحقيقي، ما أدى إلى تحويل قنوات التلفزة إلى أدوات للعمل السياسي والصراع الطائفي على نحو ما كانت تقوم به الصحافة الحزبية في الدول العربية في مراحل تاريخية سابقة. من هنا تقوم حالياً بعض الحكومات والحركات السياسية والطوائف بتمويل وتشغيل بعض قنوات التلفزة، وتوظيفها لتحقيق أهدافها، وفي هذا السياق يبرز دور المذيع كناشط سياسي أو مهيِّج جماهيري أو داعية وذلك بما يتفق والأجندة السياسية للجهة التي تمول القناة وتدفع للمذيع راتبه. ما يعني أن سلطة المذيع هي أمر شكلي، يعتمد أساساً على مدى قدرته على ترجمة رغبات الحكومة أو الحزب أو الطائفة التي تمتلك القناة، وبالتالي يبالغ بعض المذيعين في ممارسة هذا الدور ظناً منهم أن ذلك يضمن لهم استمرار الظهور على الشاشة وتحقيق النجومية، ولا شك في أن الطابع السياسي والدعائي لبعض قنوات التلفزة يضمن استمرار هذه المبالغات وتفشي الممارسات غير المهنية لبعض المذيعين، بغضّ النظر عن المصالح العليا للوطن أو احترام حقوق المشاهدين في تلقي إعلام ملتزم بالدقة والتوازن والمهنية.
– المدخل الثالث يرتبط بنظرية تعوّد الجمهور على متابعة هذه النوعية من المذيعين غير المهنيين، فالظهور المتكرر للمذيع بغضّ النظر عن مستوى أدائه وما يقوله للجمهور، فضلاً عن حملات الدعاية والترويج … كل ذلك يجعل منه نجماً لدى قطاع من الجمهور، والمشكلة أن المشاهدين العرب تعودوا على نمط أيقوني واحد أو نمطين للمذيع أو المذيعة، يفترض بداية الجمال وارتداء أحدث خطوط الموضة بغضّ النظر عن جودة الأداء والالتزام بالقواعد المهنية واحترام حقوق المشاهد. القصد أن الشكل يتفوق على المضمون، وهي معادلة غير موجودة في أغلب قنوات التلفزة العالمية، لكنها صارت القاعدة في قنوات التلفزة العربية وفي إدراك المشاهدين العرب، والمفارقة أن ظاهرة المذيع غير المهني صارت نموذجاً يحتذى أمام طلاب كليات الإعلام في الوطن العربي والمذيعين الجدد وهو أمر خطير يحتاج إلى مراجعة وتصحيح.
– المدخل الرابع هو ضعف أو غياب التشريعات والقواعد المهنية ومواثيق الشرف الإعلامية عن أغلب الدول العربية، وحتى في حال وجودها فإنها قديمة ولا تواكب تطورات صناعة الإعلام في العالم، ومع ذلك فهي لا تطبق، حيث لا توجد في كثير من الدول العربية جمعيات أو نقابات للعاملين في قنوات التلفزة والإذاعة، يمكن أن تحاسب المذيع المقصر أو غير المهني. هكذا تغيب آليات الرقابة والمحاسبة وينتشر الأداء غير المهني. من جهة أخرى، فإن ضعف أو غياب جمعيات الدفاع عن حقوق المشاهدين يزيد من وضعية عدم المحاسبة ويشيع مناخاً عاماً من الاستهتار وسوء استخدام سلطة المذيع التي تعتبر في أحد جوانبها جزءاً من سلطة وبريق التلفزيون.
– المدخل الخامس اقتصادي ويفترض أن انتشار واستمرار الأداء غير المهني للمذيعة أو المذيعة في التلفزة العربية أقنعا مالكي ومشغلي هذه القنوات سواء كانت جهات حكومية أو خاصة بنجاح هذه النماذج وقدرتها على زيادة نسب المشاهدة ومن ثم زيادة إقبال المعلنين، من هنا حصل بعض المذيعين على أجور مرتفعة للغاية كما حصل بعضهعم على نسب من الإعلانات وهي أمور غريبة وغير معمول بها في العالم من دون الاستناد إلى إحصاءات دقيقة عن نسب وتوقيت المشاهدة لكل برنامج أو قناة. القصد أنه لا توجد شواهد أو مبررات موضوعية لوجود علاقة بين عدم الالتزام بالقواعد المهنية في تقديم البرامج وبين زيادة نسب المشاهدة، أو بين الانفلات غير المبرر في سلطات المذيع وبين زيادة المشاهدة، اللهم سوى الادعاء أن كل غريب ومتطرف مطلوب وجاذب للجمهور! وهذه القاعدة قد تكون صحيحة لبعض الوقت وليس كل الوقت، ما يعني أن تأثيرها موقت وزائل والأهم أن آثارها السلبية خطيرة على المجتمع وعلى دور ومكانة الإعلام والمذيعين أنفسهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى