مقالات مختارة

سربرنيتشا والعدالة المتأخرة

د. جبريل العبيدي

بعد مرور أكثر من 20 عاماً على مذبحة سربرنيتشا، وبعد انتحار ميلوسوفياتش تلميذ السفاح كرادتش، أخيراً السجن مدى الحياة لراتكو ملاديتش سفاح البوسنة، الجنرال الذي ارتكب هذه المذبحة المروعة، خطوة قد تعتبر بداية لكفكفة دموع الثكلى واليتامى، وقد تكون خطوة لطي صفحة من ماضٍ حزين كتب تاريخه بدماء المسلمين الأبرياء.

الجنرال راتكو ملاديتش، الذي شغل منصب رئيس أركان جيش صرب البوسنة، هذا الاسم الذي فجع الكثيرين من الآمنين، وقتل الآلاف من المسلمين في البوسنة والهرسك، هذا الصربي الأرثوذكسي المتعصب قتل في يوم واحد أكثر من 8 آلاف مسلم من البوشناق، أغلبهم من الرجال والصبيان بعد أن عزل عنهم النساء، اللواتي تعرض 50 ألفاً منهن، بعد هذه المذبحة، لعمليات الاغتصاب الجماعية بأمر كرادتش ورادو ميلوسوفياتش وتنفيذ راتكو ملاديتش، الذي كان يتزعم جيشاً بقوة 180 ألف جندي صبّت نيران مدفعيتها على سربرينتشا ليالي خمس، قبل أن تقتحمها أمام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتي تراجعت مسافة 20 كلم عن المدينة المنكوبة، لتتركها تواجه مصيرها المرعب، ولعل من المستغرب هو تجاهل اتهام قائد قوات الأمم المتحدة، الذي كان يجب أن يشمله التحقيق عن كيفية حدوث هذه المذبحة، في مناطق كان من المفترض أنها آمنة، إذ إنها كانت تحت حماية الأمم المتحدة، فماذا كان دور القوات الأممية في هذا الأمر؟

لسفاح البوسنة راتكو ملاديتش شركاء في الجريمة، من بينهم ردوفان كرادتش، الذي اختفى في عام 1997 ليظهر في عيادة للطب البديل، متنكراً تحت اسم دارتمان دابيتش، في حين يؤكد صاحب الهوية الحقيقية أنه لم يفقد هويته، ولا أحد يعرفها سوى الشرطة الصربية، أي أن الحكومة كانت تتستر على اختفاء كرادتش وهذا كان بعلمها، فالسفاح كرادتش المتحدر من الجبل الأسود، هو في الأصل طبيب نفسي، ناضل أبوه الإسكافي ومربي الدواجن في سبيل تعليمه، ولكنه نما شريراً مهووساً بالحرب، وكان يهدد المسلمين في البوسنة بالإبادة، حين كان نائباً في البرلمان، فكان يقول «لا بد من إبادة المسلمين»، وفعلاً فعلها حين صار الأمر إليه، ويومها تخاذلت القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة الموكول إليها حماية منطقة سربرينتشا، لتتحول هذه المدينة في أيام 11 إلى 19 يوليو (تموز) 1995، إلى مقبرة لهم على يدي كرادتش وعصابته، عرفت بمذبحة سربرنيتشا وبدعم من الرئيس سلدوفان ميلوسوفياتش، الذي تم اتهامه هو الآخر من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، وكان شريكاً للسفاح راتكو ملاديتش في حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وكان أشبه بعراب تفكيك شعوب البلقان ومهندس حروبها، وظل متغطرساً متعجرفاً يحتقر المحكمة الدولية والقضاة، ساخراً من العدالة، رافضاً حتى توكيل محامٍ له، إلى أن انتحر في زنزانته، حيث قال عنه إدجار شين المراقب للمحاكمة: «لقد أفلت ميلوسوفياتش من الحكم، لكنه لم يفلت من العدالة، فهو لم يقضِ تحت وابل من الرصاص في بلغراد، ولم يذهب ليستجم في جنوب فرنسا، بل مات في زنزانة بالسجن»، ليتحقق جزء من العدالة للضحايا بالحكم على السفاح راتكو ملاديتش.

الحكم بالسجن مدى الحياة على راتكو ملاديتش يعتبر بداية الخطوة الأولى نحو تحقيق العدالة، فمذبحة سربرنيتشا كانت دائماً العلامة السوداء في تاريخ أوروبا الحديث، وكان بقاء الجناة طلقاء دون تحقيق العدالة، سيجعل من حديث أوروبا عن حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية، مجرد كلام لا معنى له ولا مضمون يحتويه.
الحكم على الجنرال راتكو ملاديتش يحقق جزءاً من صورة العدالة البطيئة، التي تقتص لمقتل 8372 بوسنياً قتلوا في زمن الإعلام الفضائي، وبحضور الأمم المتحدة وجنودها، لا لشيء سوى أنهم مسلمون.

………………

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى