كتَـــــاب الموقع

رسائل هيلاري تنعش عُبّاد الطغاة

سالم العوكلي

تنتشر هذه الفترة على مواقع التواصل ما أسميه كتابات (قريحة الشماتة) أو هوس التشفي. التشفي من جريرة حلم شعب استيقظ ذات ربيع وحدق في الحرية، ويُعزى هذا الانتشار، في هذا الوقت، إلى تسريبات رسائل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون. غير أن من يمارسون هذه العُقَد يجهلون أو يتجاهلون التاريخ الذي يخبرنا بأن كل ما يحدث في العالم يقف خلفه تدخل خارجي، بشكل إيجابي أو سلبي، وكثيرا ما يكون الانغلاق والقمع الداخلي سببا في هذا التدخل، لأنه تحت لافتة السيادة الوطنية نكلت أنظمة مستبدة بشعوبها، ومنعت حتى زيارة المنظمات الإنسانية لها.

على من يمارسون هذا التشفي اللاأخلاقي أن يقرأوا التاريخ، تاريخ الثورات الشهيرة التي حدثت في العالم، منذ أن كانت وسيلة التنقل عربات تجرها خيول، وقبل حتى أن يُعرف التلغراف أو الراديو أو أي وسيلة للاتصال والاختراق، وقبل حتى أن ترسي وكالات الاستخبارات العالمية مؤسساتها الضخمة العابرة للحدود. وقبل أن يدخل قاموس العالم مصطلح (العولمة)، وقبل الأقمار الصناعية التي تراقب كل شيء على الأرض، وقبل أن يصبح مفهوم سيادة الدولة الوطنية وهما أمام القوى السياسية والاقتصادية والرقمية العابرة للحدود.

فيما يخص ليبيا، هل كان أحد مازال فيه ذرة عقل يتوقع أن يُسقط الشعب الليبي وحده نظاما قمعيا متجذرا لا يتردد في إبادة كل من ينتقده ما بالك من يهتف بإسقاطه، بدون أن يستعين بقوى دولية. ولهذا السبب توجه الليبيون، أو المنتفضون منهم، إلى العالم كله كي يساعدهم في إسقاط هذا النظام الذي لم يتوقف عن وعيده وتهديده لليبيين حتى بعد أن سقط نظامان مجاوران له وحتى بعد أن خرج نصف مساحة البلد عن سلطته. وبالتالي السؤال المهم والمقلق والصعب هو: ما الذي يجعل شعبا يستعين وهو في كامل وعيه بقوى خارجية كي تجيره من حاكمه المحلي؟ ولا إجابة سوى أن ما يرغمنا على تجرع المرارة هو الأمرُّ منها. فلا أحد يتمنى أو يريد تدخلا خارجيا في بلده لكن النظم الاستبدادية المتخلفة أوصلت شعوبها المقموعة إلى هذا الخيار المر، وجعلت قوى اللاوعي الجماعي المنبثقة عن عقود من الألم المكبوت مستعدة للتحالف حتى مع الشيطان لإسقاطها.

تلك الدول التي توجه إليها المنتفضون في 17 فبراير بنداء استغاثة، هي التي عبأت مخازن القذافي بترسانات الأسلحة الفتاكة (كان 70% من إيراد النفط يذهب إلى وزارة التخطيط والتنمية حتى أغسطس 1969، أصبح 70% من هذا الإيراد يذهب إلى بند التسليح العام 1972)، ومخابرات العالم هي من جاءت به في لحظة غفلة، وهي التي أنقذته من أكثر من محاولة انقلاب وأطالت عمر حكمه، لذلك كان عليهم أن يتحملوا مسؤوليتهم الأخلاقية عما فعلوه بهذا الشعب، على الأقل بتدمير هذه الترسانة من الأسلحة التي توجهت في رتل طويل إلى إبادة عاصمة الثورة بنغازي. والمفارق أن حتى الدول التي من المفترض أن تكون حليفته، روسيا والصين، لم تستخدم الفيتو في وجه قرار التدخل لأنها لا تثق فيه وتعرف مدى وحشيته، ولا تريد التورط في تحمل مسؤولية ما سيرتكبه من جرائم لو أُجهِضت الثورة.

وبالعودة إلى تاريخ الكيان علينا أن نفكر: هل ثمة تغيير حدث في ليبيا دون تدخل خارجي؟، وهي الدولة التي لم توجد على الخريطة إلا عن طريق صراع دولي داخل مقر منظمة الأمم المتحدة، فبعد جدال ومداولات وصراعات تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية ثبت الإنجليز السيد إدريس السنوسي ملكا على ليبيا الفيدرالية، ثم وحدتها ضغوط الدول صاحبة شركات النفط العاملة في ليبيا عبر التعديل الدستوري 1963، ثم في ليلة ظلماء استطاع 12 ضابطا صغيرا السيطرة على الدولة الليبية المترامية دون أن تراق قطرة دم، ودون حتى أن يعرف الناس في الأيام الأولى من هم ومن القائد، ومن يتبعون وكيف جاءوا بغتة.

فهل يعقل أن يستولي 12 ضابطا صغيرا دون دعم شعبي على دولة قائمة بمؤسساتها؟ فيها ضباط كبار من الجيش لم يستطعوا إيقاف هذا الانقلاب، وفيها قوات متحركة مدججة بكل الأسلحة وذات تدريب عال لم تحرك ساكنا، وفيها حرس ملكي من النخبة العسكرية المتدربة وجميعهم يعدون بعشرات الآلاف ، ويتمتعون بولاء للملك والملكية .

سبق أن ذكرت ــ وفق شهادات أدلى بها ضباط أحرار وأعضاء لمجلس قيادة الثورة سابقون ــ لجريدة ميادين، أنَّ تأخُر الملازم ثان معمر القذافي عن المجموعة التي احتلت إذاعة بنغازي كان بسبب انعطافه صوب القنصلية الإنجليزية، وما ترتب عن هذا اللقاء مع القنصل من إضافةٍ للسطر الأخير في البيان الذي جاء استطرادا نشازا بعد عبارة الختام (لقد دقت ساعة العمل فإلى الأمام) ونص إضافة القنصل الإنجليزي ما يلي “وإنه يسرنا في هذه اللحظة أن نطمئن إخواننا الأجانب بأن ممتلكاتهم وأرواحهم سوف تكون في حماية القوات المسلحة ، وأن هذا العمل غير موجه ضد أي دولة أجنبية أو معاهدات دولية أو قانون دولي معترف به وإنما هو عمل داخلي بحت يخص ليبيا ومشاكلها المزمنة.”.

وما دمنا في صدد الحديث عن التسريبات أحيل الشامتين إلى الرابط : (خفايا وأسرار حركة الضباط الوحدويين الأحرار في سبتمبر 1969):

https://arabianhome.yoo7.com/t2351-topic

للإطلاع على هذه المقالة الشهادة المرفقة بتسريبات من السفارة الأمريكية أيضا التي خططت وأدارت وحمت انقلاب 1969 عبر وسطاء مذكورين في الشهادة، وحتى إن كان فيها تحامل فثمة حقائق كثيرة عززتها التسريبات الاستخباراتية المتواترة التي انطلاقا منها ذكر الكاتب والصحفي الكندي إيرك مرجولس في مقالة بعنوان “أمريكا ضيعت الكرة” جريدة (تورنتو صن) 24 يونيو 2007 ، ما يلي: “قامت أمريكا بأشياء عظيمة حول العالم، مثل إعادة بناء أوربا بعد الحرب (العالمية الثانية) وقيادة النمو الاقتصادي العالمي، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي فكل شيء تقريباً تلمسه الولايات المتحدة يتحول إلى رماد. سجل واشنطن في اختيار القادة الأجانب الطيعين مروع. ففي عام 1969 قامت الاستخبارات المركزية (السى آى إيه) بوضع ضابط صغير، معمر القذافي، في السلطة في ليبيا…”.

لا أذكر هذا من باب المماحكة أو المزايدة ولكن أبين أن المؤامرة جزء من محرك التاريخ، وأن إخراج جزء منه عن سياقه لتشويه أحلام وطموح الناس؛ الذين قرروا في لحظة راؤها مناسبة التمرد على الطغيان، هو سلوك غير أخلاقي بقدر ما هو غير موضوعي.

كثيرا ما تعترف التسريبات المتعمدة بعد فترة من الحدث بطبيعة وتكتيكات هذه التدخلات كجزء من أرشيف نجاحات أجهزة الاستخبارات المتفوقة. والأمر المختلف كون تسريبات رسائل هيلاري حدثت في زمن الثورة الرقمية، وفي لحظة الذروة في حملة ترامب الانتخابية، فلاقت هذا الرواج في منصات التواصل والتعبير المتاحة للجميع ، أما التسريبات القديمة ووثائق أجهزة المخابرات المنشورة فلم يكن الوصول إليها متاحا إلا عبر البحث والتقصي. لذلك علينا

ان نقيم الأمور بأنفسنا ووفق ما تمليه تلك اللحظة الصعبة في تاريخ ليبيا بعيدا عن الانخراط في سياسات الفضح المتبادلة لصراع الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكيا.

ويبقى المهم ماذا علينا أن نفعل بعد هذا القدر الأرضي الذي نسميه منطق التاريخ؟ ولا نتوقف عند إظهار البطولات المزيفة بعد أن انقشع دخان الحريق المطبق على المشهد برمته ، ونفتش في ذاكرةِ تجاربٍ ملهمة مثلما حدث لألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وما عقب هذه الهزائم من فوضى أدت في النهاية لأن تفرض عليهما الولايات المتحدة شروطا مجحفة ومذلة، ورسمت لهما خططهما المستقبلية، وعبأت أراضيهما بالقواعد التي مازالت موجودة حتى الآن، لكنها في النهاية أثبتت نفسها كقوى كبرى مستقلة في هذا العالم ومؤثرة فيه، ولا أحد يشمت أو يتشفى أو يتحدث عن التدخل كعار أو عن القواعد الرابضة حتى الآن على أراضيها. وهذا هو الفارق بين عقلية الشماتة والتشفي المريضة، وبين العقل العملي البناء الذي يفكر بواقعية فيما حدث، ويجعل منه منهج تحدي وذخيرة فرص للانطلاق إلى المستقبل.

لم تشهد ليبيا منظرا جميلا مثل تلك المظاهرات في الميادين الملونة التي شارك فيها النساء والرجال والشيوخ والأطفال، ولا جمال يضاهي جمال التمرد على الظلم، والحشود المطالبة بالحرية، أما ما حدث بعد ذلك فكله تداعيات نظام فصل الدولة على مزاجه، وربط عمرها بعمره بعد أربعة عقود من تجريف متعمد لكل البدائل الممكنة بحيث لم يترك مخرجا آمنا من جحيم الاستبداد. والتدخل الخارجي وما عقب استئصال النظام من فوضى وفساد وحروب دائما كان يعقب نهاية النظم الشمولية. ورجاء اقرءوا التاريخ، وتاريخ نهاية الطغاة خصوصا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى