كتَـــــاب الموقع

ذكريات معه

إنتصار بوراوي

في كتاب “ذكريات معه” الذي كتبته السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس جمال عبد الناصر تبحر السيدة تحية بذاكرتها لتسرد تفاصيل يومياتها مع الرئيس جمال عبدالناصر، وحياتهما المشتركة التي امتدت حتى يوم وفاته، ولقد بدأت السيدة تحية بكتابة ذكرياتها معه كما تذكر في مقدمة الكتاب في الذكرى الثالثة لوفاة زوجها الرئيس جمال عبدالناصر ولكنه لم ينشر إلا فى عام 2011.

الكتاب يتميّز بالسلاسة والبساطة بحيث بدا أقرب لليوميات منه إلى كتاب سيرة ذاتية لزوجة رئيس دولة عربية كبيرة كان لها دور سياسي وتاريخي كبير في المنطقة العربية بحروبها ونكباتها ونكساتها وفي أوج المد القومي العربي وحروبها وسجونها واعتقالاتها للأدباء والمفكرين.

في الصفحات الأولى من الكتاب، تذكر السيدة تحية طريقة تعرّف أسرتها على عائلة جمال عبدالناصر، حيث كانت تربط الأسرة علاقة صداقة قديمة مع عائلة جمال عبدالناصر، وكان يحضر لزيارة عائلتها مع عمه وزوجته التي كانت صديقة لوالدة السيدة تحية، ونتيجة هذه المعرفة تقدم جمال عبدالناصر لخطبتها ثم تزوجها في عام 1944، وكان جمال عبدالناصر وقتها برتبة يوزباشى في الجيش الملكي ومدرسا في الكلية الحربية.

يبدو سرد السيدة تحية في الكتاب لحياتها مع جمال عبدالناصر كرّبة منزل وزوجة محبة، ومطيعة لزوجها، فهي لا تتناقش معه في الأمور السياسية أو غيرها، بل تقوم بدور الزوجة المتفانية طيلة الستة عشرة سنة التي قضتها برفقته، وأنجبت خلالها ثلاثة أبناء وبنتين.

ولكنّ السيدة تحية كما تقول في الكتاب لا تعرف خبايا اجتماعات زوجها الرئيس أو لقاءاته السياسية حتى قبل أن تحدث ثورة 1952، فهي لم تكن تفهم سبب جلبه للسلاح أثناء حرب فلسطين وتخزينه بالبيت إلا بعد أن أخبرها بأنه سيمضي للحرب بفلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي، حيث تمت محاصرته مع فرقته العسكرية في الفلوجة لمدة خمسة أشهر إلى أن تم فك الحصار عنهم ورجوعهم إلى مصر.

وفي الشهور التي كان يجهز فيها جمال عبدالناصر مع رفاقه الضباط لانقلاب 23 يوليو لم تسأله عن الأسلحة التي يقوم بتخزينها بالبيت أوعن كثرة زيارات واجتماعات الضباط في منزلهم إلى أن تفاجأت بإعلان الثورة عبر الإذاعة ورأت صور زوجها في اليوم الثاني برفقة ما سمّي “بمجلس قيادة الثورة “وأدركت بأن حركة الدبابات التي حاصرت قصر الملك فاروق كان يقودها زوجها اليوزباشى جمال عبدالناصر.

السيدة تحية في الكتاب تكتب بروح الزوجة المحبة، العاشقة لزوجها التي ترى فيه كل العالم والدنيا، وترى كل قراراته صائبة، فهي كما تذكر في الكتاب لا تتدخل أبدا حتى بمعرفة ما يدور من شئون سياسية مع أن بعض اجتماعاته ولقاءاته بمساعديه والقادة العسكريين كان تتتم في البيت، وتذكر السيدة تحية أنها لم تعرف بقرار تأميم قناة السويس إلا بعد أن سمعته يعلنه بصوته الرنان في الراديو.

طيلة الكتاب تروي السيدة تحية يوميات حياتها الزوجية مع الرئيس جمال عبدالناصر مواعيد الأكل، ساعات عمله بالمكتب بالبيت، قضاؤها معه في مشاهدة السينما والأفلام التي يحب مشاهدتها معها، رحلاتها الصيفية مع الأولاد للإسكندرية، ومن خلال الكتاب تكشف عن الجانب المجهول ليوميات الرئيس كزوج محب لبيته وأطفاله وعن هوايته المتمثلة في عشقه للتصوير، ومشاهدة أفلام السينما، وسماع أغاني أم كلثوم وعبدالحليم ومرافقتها له في سفراته إلى الدول الأخرى، حيث كانت أول زيارة رسمية لها برفقته إلى يوغسلافيا، التي استقبلهم فيها الرئيس تيتو وتذكر ارتباكها في التعامل مع بروتوكولات استقبال زوجات الرؤساء ومساعدة جمال عبدالناصر لها للتقليل من توترها وارتباكها، كما تذكر أيضاً أن الرئيس جمال عبدالناصر لم يكن يقبل الهدايا إلا من الرؤساء العرب، ويفضل أن تكون رمزية، أما هدايا السيارات والعربات والطائرات التي أهداها له بعض الرؤساء فلقد سلّمها جميعها لخزانة الدولة.

ومن بين أكثر فصول الكتاب أهمية هو الفصل الذي تحدثت فيه عن نكسة يونيو وعن تأثير ذلك اليوم على الرئيس حيث أخذ أدوية مهدئة كي ينام، ولكنها لم تذكر أي تفاصيل مهمة حول ذلك اليوم المصيري في تاريخ مصر والعرب، وإنما عرضت بسرعة لما أطلعه عليها الرئيس من إحباطه لمحاولة عبدالحكيم عامر الانقلاب عليه بعد نكسة يونيو، فى شهر سبتمبر من صيف عام 1967.

و تذكر السيدة تحية في الكتاب أنه في صيف 1968 مرض الرئيس ورافقته في رحلة علاجه إلى جورجيا وشفي من مرضه، ولكن أصابته أول نوبة قلبية في صيف 1969، حيث رقد في السرير لأيام وكان الأطباء يتناوبون على علاجه، حيث طالبوه بالراحة، ولكنه بعد أسبوعين قام من السرير وقام باستقبال القادة المسئولين عن حرب الاستنزاف وتابع أخبار الجبهة يوميا معهم، واستمر يجهد نفسه كما تقول زوجته السيدة تحية دون أن يأخذ قسطا من الراحة، وفي سبتمبر 1969 جرت معركة أيلول الأسود التي حدثت فيها اعتداءات من الأردن على الفلسطينيين، وقام الرئيس جمال عبدالناصر بعقد قمة عربية في فندق الهيلتون، وعمل طيلة الأربعة والعشرين ساعة على الوفاق بين الطرفين وفي آخر يوم بعد انتهاء القمة وتوديع الرؤساء الضيوف بالمطار تذكر السيدة تحية بأن الرئيس دخل ليرتاح وينام ولكنه طلب الدكتور قبل ذلك، ولاحظت السيدة تحية كما تقول امتقاع وجه الدكتور ومرافقيه من الأطباء وحالة ارتباك بينهم، وبعد ساعات أسلم الرئيس جمال عبدالناصر الروح في هدوء وسلام.

وعن موته تقول الزوجة المحبة المتفانية في محبة رفيق عمرها في نهاية كتابها الذي أنهت كتابته في ذكرى وفاته الثالثة “سأظل أبكيه حتى أرقد بجانبه في جامع جمال عبدالناصر بمنشية البشرى وقد جهز لي مكان القبر بجانبه كما طلبت”.

وسواء أحببنا جمال عبدالناصر أو كرهناه، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أنه كان حالم كبير كانت لديه أحلام كبيرة بتحرير فلسطين وبالوحدة العربية وربما كانت أكبر أخطائه أنه كان مستفردا برأيه لتحقيق أحلامه وتنفيذ قناعاته ولكنه كان حقيقيا مع نفسه ومع قناعاته، ولم يبدل جلده كما فعل الكثيرون، بل ظل وفيا لمبادئه وقناعاته، ولم يكن مزيفا مثل القذافي بل كان حقيقيا تأثر بنكسة 1967 حين رأى أحلامه وهي تتساقط وتقتل بأيدي الأصدقاء قبل الأعداء، فلم يحتمل قلبه كل ذلك وصمتت دقات قلبه وانسحب من الحياة بهدوء، وفي هذه السيرة واليوميات التي كتبتها زوجته السيدة كشفت الكثير من الجوانب الإنسانية في شخصيته الكريزمية التي لا يمكن أبدا مقارنتها بالمزيفين والمشوهين أمثال القذافي الذي حاول تقليده بشعارات كاذبة مزيفة لا علاقة لها بحقيقة حكمه المدمر للبلاد وربما السيدة تحية لم تكشف الكثير من الأسرار عن الحياة السياسية لمصر بتلك الحقبة المليئة بالأحداث الكبيرة في تاريخ مصر والعرب إلا أنها كشفت عن جوانب شخصية، وأحداث وتفاصيل صغيرة في حياة جمال عبدالناصر لم يكن من الممكن معرفتها إلا من خلال ذكرياتها التي طرحتها في كتابها “ذكريات معه “.

زر الذهاب إلى الأعلى