اخترنا لككتَـــــاب الموقع

ذاكرة الشرفة

نوارة الجبالي 

للشعوب ذاكراتها التي تخلدها مهما مرّ الزمن أو تعرضت للتخريب، لكن العبرة هي مقدار الحيوية والإصرار لدى الشعوب الحيّة على الاحتفاظ بالمواقف والمعالم التي تشكل جزءا مهما من ذاكرتها الجمعية، وتحرص على توريثها للأجيال المتعاقبة لتكون لهم زادا طيبا في رحلة الحياة.

وقفتُ أمام مبنى “قصر المنار” في بنغازي، واختلطت لدي مشاعر الألم والحسرة، والحنين لماضٍ قريب يمثل بداية انبعاث أمّة بعد ليل داهم طويل.

نظرتُ إلى شرفة القصر التي أعلن منها أول ملك لليبيا الحديثة استقلال البلاد، وبداية مسيرة جديدة ومستقبل واعدٍ، لم يُرد له أن يحظى بفرصة مناسبة لتحقيقه كما يجب. وتذكرت أن الملك الصالح تنازل في بادرة لها دلالاتها، عن قصره ليكون مقرا رئيسا لأول جامعة ليبية في تاريخنا الحديث، ضمت طلاب العلم من كل أنحاء الوطن، وأصبحت بالفعل منارة للعلم خرج منها أفضل عقول هذا البلد.

كما تذكرت أول يوم دخلت فيه المكان.. طالبة جامعية أحمل معي أحلامي وآمالي  ككل أبناء جيلي، ونحن نجوب ردهاته وحجراته وفناءه، نحمل أحلاما لوطن بوسع الكون، نشارك في رفعته وكلنا أمل بالحصول على أعلى الشهادات وبدء المشاركة في البناء، في فترة زمنية حاسمة كانت المرأة فيها تحظى بتقدير عالٍ، ومساواة ترفع من قيمتها الإنسانية وتؤهلها للمشاركة الإيجابية في مسيرة البناء. ومثل أغلب معالم بنغازي، لم يسلم قصر المنار ولا “شرفته التاريخية” من أتون المعارك التي جرت لتخليص المدينة من الإرهاب، تعرض القصر للنهب ولحريق أتى على أجزاء منه. فأبناء الوطن على الجانبين، يهمهم حسم المعركة لصالحهم دون حساب للتاريخ، أو لما قد يضيع من الجذور التي تشكل الصورة الكلّية لأي وطن.

كان آخر نشاط أقيم في المكان، احتفالية أيام بنغازي الثقافية، تحت شعار (بنغازي تتنفس تقاوم تعيش). عندما كان لدي النشطاء الخيرين أملٌ في أن تعود الأمور إلى نصابها، ويعي الأبناء أن لهم مدينة تحمل كل دلالات الوطن، ينبغي المحافظة عليها…

 مرت كل هذه المحطات أمام ناظري وأنا أشاهد الدمار الذي طال المكان، وعرفتُ أن مجرد تمكني مثل غيري من التواجد في المكان، بعد أعوام كان فيها مغلقا بفعل المعارك بين الإخوة الأعداء، هو دليل على أن بنغازي تتنفس وتقاوم وتعيش. وأن قصرالمنار سيعود منارة للعلم والثقافة وإن طال الزمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى