اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

ديوان المحاسبة ودولاب العرقوب !

عبدالوهاب قرينقو

لطالما اشتهرت مدينة غدامس الليبية العريقة بتقاليدها وطقوسها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ ومنها تقليد رمضاني يسمى بــ “دولاب العرقوب”.
يستقبل الصبي الغدامسي البالغ ضيوفه من أقرانه الصغار ويفتح دولابه الفريد من نوعه في منتصف شهر رمضان أو في نهايته عند أول صيام له للشهر الكريم لتعلن نتيجة الإمتحان الطقسي البديع نجاحاً أو بالرسوب .. فعندما يصل الصبي إلى سن البلوغ ويقرر الصيام لأول مرة يطلق عليه لقب العرقوب فتقوم الجدتان من الطرفين وباشراف والدي العرقوب بتجهيز و تعمير الدولاب حيث يعمر الأهل الخزانة الخشبية “الدولاب” بما لذ وطاب من الحلويات الغدامسية و بعض السكاكر وحلوى الحلقوم ومجموعة من علب التونة والسردين و الجبن وغيرها من الأطعمة والمشروبات المعلبة المصنعة الحديثة ويستلم العرقوب مفتاح الدولاب متعهداً بالمحافظة على الموجودات كامتحان و تدريب للصبي على الصبر والجلد والتحمل و التعود على حفظ الأمانة كدرس كبير للصغير سيرسخ في كيانه طيلة حياته كنوع ونمط من التربية على الفضيلة والأخلاق الحميدة التي تساهم في خلق مجتمع نظيف ومحترم.

في منتصف رمضان يطلب الوالد من ابنه فتح الدولاب وإذا ما نجح في الامتحان يدعو أصحابه لمشاركته تناول أطعمة الدولاب وبهذا ينتقل الصبي الصائم (العرقوب) من مرحلة الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الرجولة .. تقاليد غدامسية متوارثة وراسخة ضمن الهوية الليبية العريقة التي ربما سبقت وصول الدين الإسلامي إلى ليبيا ولعلها رُبِطت لاحقاً بالركن الديني كنوع من التمازج الحضاري الذي خلق فسيفساء وتنوع وثراء الهوية الليبية الأصيلة وهذا لاينتقص من شأن الدين ففي حديث شريف يؤكد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأنه جاء بدعوته السماوية ليتمم مكارم الأخلاق وهنا أخلاق ليبية أصيلة تقوت بالدين الحنيف وامتزجت.

. . . والسؤال اليوم ونحن نشهد مارشح عنه تقرير ديوان المحاسبة الليبي من أرقام فلكية تفضح الفساد الممنهج والنهب المريع لمقدرات الأمة الليبية من مليارات من النقد راحت هباءً منثوراً في جيوب اللصوص الكبار بأكثر من مئتي مليار صرفت خلال سنوات خمس كان يمكن لها أن تعود بالنفع الكبير على البلاد والعباد في جميع مجالات الحياة وتنتشل الشعب من الفاقة والفوضى وانعدام الأمن والآمان ، فكم من دولاب –سُرِقَ- ليس في عهدة عراقيب بل لراشدين أو مَن يُفترض أنهم كذلك .. دواليب أو خزائن نُهبت ، في أبشع صور عدم المحافظة على الأمانة التي سلمها الشعب وأمَّنَ عليها المسؤول الذي لم يتوانَ عن سرقتها .. ولعل أكبر الخزائن والدواليب الخزنة الأكبر مصرف ليبيا المركزي الذي ما انفك بعد إعلان تقرير ديوان المحاسبة يصدر البيان التبريري الذرائعي الباهت تلو البيان لدرء الشبهات عنه وعن مؤسسات سطو واعتداء واستهتار بأرزاق الشعب .. وإن كان بمقدور “العرقوب الكبير” صاحب الدولاب الكبير أن يجعل من هذه المبررات تنطلي على عموم الشعب أو شريحة كبيرة منه فلن يغفل الله عن هذا التبذير والنهب الممنهج من كل مسؤول مد يده لخزانة الدولة فخان الأمانة ورسب في الامتحان .. وربما علينا أن ننشر طقس دولاب العرقوب في تقاليد كل مدينة ليبية لا غدامس وحدها علَّ العراقيب القادمة تتعلم الحفاظ على الأمانة .. أما راشدو اليوم من المسؤولين اللصوص الذين لم يمروا بدرس الدولاب فعلى الله العوض ومنه العوض –فات الميعاد – على أنهم لم يلتزموا حتى بالتعاليم الروحية للدين القويم ليلتزموا بطقس غدامسي حكيم وإن كان للصبية ! لاسيما أن تقرير الديوان فضح أيضاً المؤسسة الدينية المفترض أنها مَن يحث الناس على صون الأمانة وحفظ المال العام ، ألا وهي هيئة الأوقاف ودار الافتاء بزعامة الشيخ المعزول مع عجز بالملايين واختفاء سيارات خصصت له لخدمة العباد.. وأعرف مسبقاً أن لصوص اليوم يضحكون من حكاياتنا الطفولية الفلكلورية ويسخرون حتى من أخلاقنا الليبية العريقة ولكن العبرة فيمن سيبكي لاحقاً حين تقوم لنا دولة قانون ورقابة ومؤسسات وقضاء عادل .. حين لن يفلت أحد من المجرمين من عقاب الدنيا ناهيك عن رب كريم يمهل ولايُهمِل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى