مقالات مختارة

ديكتاتوريات صغيرة بقفازات الديمقراطية

د. آمال موسى

عندما نمعن النظر في أداء الأحزاب في بلداننا، وعلى رأسها تلك الأحزاب أو الجماعات الفاعلة في البلدان التي عرفت ثورة أو احتجاجات شعبية عالية النبرة، ونجحت في الدفع نحو التغيير نلحظ أن الجميع ينادي بالديمقراطية ويشهرها سلاحاً في وجوه الخصوم والحال أن هؤلاء مع الأسف بينهم والديمقراطية مسافة من القيم والثقافة.
نعتقد أن الديمقراطية شعار وكلمة سحرية يكفي النطق بها والدعوة إليها لينتهي أمر الديكتاتورية نهائياً. وها هو الواقع السياسي اليوم في تونس وليبيا والجزائر يُكذب هذا الاعتقاد، ويؤكد أن المشكلة أكبر من خلع نظام حاكم ديكتاتوري. بل إنّها أكبر بكثير.
ماذا نعني بذلك؟ هل القصد الإحباط والقول إننا لا نصلح للديمقراطية؟
نعني سبب النتائج المحبطة في البلدان التي عرفت ثورة، هو الإخفاق في هضم قيم الديمقراطية، الشيء الذي انعكس على الأداء ففضحته المعارك الكلاميّة. أي أن العلاقة بالفكر الديمقراطي نظرية ميتافيزيقية بالأساس فظهر البون شاسعاً بين الكلام والممارسة والخطاب والسلوك السياسيين.
هذا يعني من جهة ثانية أن الديمقراطية ما زالت حلماً يراود الوعي ويُفشله اللاوعي المتحكم في الممارسات أكثر من الوعي في أحايين كثيرة، وخاصة في الظواهر التي هي نتاج ثقافة عريقة ومتغلغلة مثلما هو شأن ظاهرة الديكتاتورية والحكم السلطوي. هناك حقيقة تاريخية أننا ننتمي إلى ثقافة سياسية قامت على قطف الرؤوس، وحتى عندما تراجع قطف الرؤوس بفعل عوامل كثيرة فقد ظل القطف آلية في الحقول الاجتماعيّة العربية: فليس بالضرورة أن يقترن القطف كما فعل الحجاج ابن يوسف بالرؤوس، بل القطف يعني أيضاً قطف الحقوق والأحلام والمشاريع والطموحات… والقطف كما نرى عملية ملتبسة جداً فقد انتقلت من عالم الورود إلى عالم الرؤوس.
طبعاً هذه الحقيقة لا تعني الاستسلام، بل هي عامل تحفيز للانتباه كي ندرك أن الانتقال ثقافياً وسياسياً إلى مرحلة ديمقراطية فعلية يتطلب جهداً وصراعاً مع ثقافة الديكتاتورية المتوارثة. فما نشاهده اليوم في الحقيقة بعد تجاوز فكرة الديكتاتور الواحد هو ظهور مجموعة من الديكتاتوريات الصغيرة المقنعة الحاملة لقفازات الديمقراطية، وهو حسب اعتقادنا أخطر من الديكتاتورية المعلنة لأنها واضحة ومحددة خلافاً لديكتاتورية تدعي الديمقراطية والنضال الديمقراطي، وهي لا تعرف من الديمقراطية غير الشعار. بمعنى آخر الفرق بينهما كالفرق بين العدو الواضح والصديق المخادع.
في تونس مثلاً عدد الأحزاب بعد الثورة تجاوز المائتين، ومن يتفحص السلوك السياسي للأحزاب الفاعلة في الحكم أو في المعارضة يجد أن الغالبية ديكتاتوريات صغيرة تمارس العنف الرمزي والتلاسن والإقصاء والتناحر الآيديولوجي والتوظيف البراغماتي للأحداث لتحويل وجهة التداعيات إلى ما يخدم مصالح ضيقة شخصية. بل إن التورط في السلوك السلطوي يفتح الباب لعودة الأمر إلى ما كان عليه وأكثر.
كما أن الديكتاتوريات الصغيرة قادرة على فعل ما لا تفعله الديكتاتوريات المعلنة الواضحة. طبعاً قد لا تكون الديكتاتورية المعلنة بحاجة إلى ذلك من منطلق أنها وحدها وهي المهيمنة، وما سواها ليس أكثر من ديكور سياسي، ولكن مع ذلك هناك ما يشبه العرف السياسي أظهرت تجارب البلدان التي عرفت ثورة أن الديكتاتوريات الصغيرة بارعة في تجاوز الأعراف السياسية.
أيضاً وهذا أكبر نقطة ضعف لدى الديكتاتوريات الصغيرة أنها تكرر الأخطاء التي أدت إلى سقوط الديكتاتوريات المعلنة، متجاهلة ذاكرة الشعوب. وهو ما يعني أن الديكتاتوريات الصغيرة لا تنفعنا، وهي مضيعة للزمن السياسي وتأخير غير ذكي لبدء الممارسة الديمقراطية. فالتغيير لم يكن يهدف إلى تجزئة الديكتاتورية، بل خلعها سياسياً وثقافياً. وكلما كان التغيير السياسي جاداً وصحيح الخطوات كان التغيير الثقافي أسرع.
أكيد أنه حتى في أعرق الديمقراطيات هناك صراعات ومعارك، ولكنه صراع حول قيم اقتصادية واجتماعية وفكرية واضحة. صراع بين هويات سياسية مختلفة، أو لنقل في الديمقراطيات العريقة يحتل التنافس مكان الصراع. وكما نلاحظ فإن كلمة التنافس أكثر إيجابية ووضوحاً ومشروعية ومصداقية، في حين أن الصراع مدجج بالعنف، ويمارس أصحابه المشروع وغير المشروع.
لذلك فإن التنمية السياسية حتى في البلدان التي عرفت تغييرات مختلفة الأشكال والتمظهرات ظلت ضئيلة على مستوى الواقع، وبينها والتشريعات السياسيّة مسافة طويلة جداً. فالخطاب الحاد القائم على تقزيم الخصم السياسي وجلده وتعنيفه رمزياً، هو خطاب ديكتاتوري بامتياز لأن الديكتاتورية لا ترى غير ذاتها.
وهكذا نفهم أن السلطوية تترك آثارها العميقة وتنتج ذوات نرجسية مريضة بذاتها وديكتاتوريين صغاراً، مما يفيد أن الخلع الحقيقي للسلطوية لا يكون إلا ثقافياً ولا معنى لأي تغيير سياسي إذا لم يعاضده تغيير ثقافي قيمي جاد وصارم.
أيضاً الذين يرون في أنفسهم الأهلية للمساهمة في البناء الديمقراطي في بلداننا عليهم أن يكونوا فعلاً كذلك. فمن غير الممكن بناء ديمقراطية بساسة نرجسيين وسلطويين.
الجيد أن الحقل السياسي يساعدنا على القياس والملاحظة باعتبار أننا أمام سلوك سياسي، وممارسات تعكس كيفية تمثل السياسة والحكم والسلطة والحرية والتعددية والآخر.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى