كتَـــــاب الموقع

دلالات الصمت أثناء النزاع (1)

رينيه جندرون

ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي

مقدمة

يتفحص هذا المقال أنماطا مختلفة من الصمت عويشت أثناء النزاع. الصمت ماثل في محادثات عديدة، وسيكون للصمت، حسب السياق، تأثيرات مختلفة على طبيعة المحادثة. وقد صرنا أفضل فهماً لكيفية تأثير الصمت على النزاعات (عنفية أو غير عنفية)، والنحو الذي يمكن به الوسطاء من استيعاب أفضل للكيفية التي تنظم بها عملية الوساطة عند الاقتضاء. الصمت، في سياق هذا المقال، يمكن أن يأخذ معنيين: يمكن أن يعني أولا شكلا من التواصل غير الكلامي لا يتكلم فيه أي طرف من الأطراف. ويمكن أن يعني أيضا قدرة طرف على إيقاف نقاش محدد، ما يعني أن طرفا يكون قادرا على إسكات قضية ما، لتجنب شأن أُثير في النقاش.
يطرح هذا المقال استخدامات الصمت البناءة والإشكالية ويستكشف كيفية استخدام الصمت في سياقات مختلفة. من هذا، مناهج الاستخدام البناء للصمت في الوساطة، وكذلك جرى توضيح التقنيات التي تجري بها إزالة الأشكال البناءة للصمت من الوساطة. هنا، وصف النزاع على أنه سلوك يؤثر سلبيا على فرد آخر أو مجموعة. (ستاركس، 2006). وبمقتضى هذا التعريف، يمكن أن يكون النزاع غير عنفي أو عنفيا، ويمكن أن يشمل طرفين أو أكثر، ويمكن أن يستتبع اختلافا في الرأي حول السلطة والحقوق والمصالح والقيم أو العمليات، إضافة إلى أشياء أخرى. قد يكون النزاع من طبيعة مباشرة كما عندما يدخل طرفان أو أكثر في نزاع. وقد يكون أيضا صراعا بين الأجيال، حين يكون ثمة نزاع داخل جيل يتعرض فيه الأطفال لآثار سلبية ناجمة عن هذا النزاع. بينما نشدد هنا على التواصل بين طرفين أو أكثر من الأطراف الغربية، فإن نقاشا قصيرا عن معنى الصمت في الثقافات غير الغربية جرى طرحه أيضا. إن فحوى الصمت وتفسيره يركزان على التفسير الغربي للصمت. ويقر المؤلف بأن الثقافات الأخرى تُحمِّل الصمت مغزى ومعنى وتفسيرا مختلفا.

تعريف الصمت

يشير الصمت إلى اللحظات التي يتوقف فيها التواصل اللفظي خلال محادثة ما. وقد يشعر الأطراف المتحادثون أنه لم يبق لهم ما يقولونه، أو لم يعد بإمكانهم تقديم استجابة، أو أنهم يحتاجون إلى وقت لتكوين استجابة، أو لفهم الانفعالات بشكل كامل. يمكن للصمت أن يكون إظهارا للقوة، فِعلا من أحد الأطراف يرفض فيه مناقشة موضوع أو أكثر يرغب الطرف الآخر في أخذها بعين الاعتبار. يمكن للصمت أن يكون أيضا فرصة للأطراف لتأمل ما قيل والتفكير في طرق مستقبلية. غياب التواصل اللفظي لا يعني، على أية حال، أن التواصل لا يحدث. فتوقف المحادثة المؤقت ذو تأثيرات مختلفة على تدفق التواصل. لعله يعمق استيعاب المرء لوجهة نظر الآخر، أو لعله يعوق بحدة قدرة الطرف الآخر عن التعبير عن رأيه وأفكاره وعواطفه.
يقترح مولودم (1996)* أن الصمت هو أكثر من كونه غيابا للأصوات. فالسياق الذي يحدث فيه الصمت له هو الآخر تأثير على الكيفية التي تجري معايشته بها ويفسر وفقها. فالبنسبة إلى مولودم، توجد أنماط مختلفة من الصمت، بما فيها “الصمت العميق”، “الصمت الحقيقي”، و “الصمت المفتوح”. والمعنى المشتق من الصمت يختلف اختلافا عظيما حسب نوع الصمت المعاش.
لاحظ مادونك (2001) أن الصمت جزء من شبه لغة paralanguage بما أن الصمت ينطوي على معنى. السياق المحدد الذي يعاش فيه الصمت سيمارس نفوذا على مجمل المحادثة وكذلك على تفسير التواصل.
يجادل بوياتوس (2002) أن السكون والصمت نظاما تواصل بحد ذاتيهما. فكلاهما، السكون والصمت يحدثان داخل سياق تفاعل اجتماعي أوسع.
وبينما يؤكد مولدوم على خصائص الصمت، فإن بوياتوس يدفع حجته أبعد من ذلك حيث يرى أن الصمت يمتلك معاني ممكنة متعددة، وليس معنى جوهريا مفردا. وبشكل أكثر تحديدا، فإن سلسلة أوسع من التفاعلات التواصلية بين أفراد من نفس الثقافة تخلق أنماطا من الصمت والسكون. فعندما يتواصل أفراد من ثقافات مختلفة، قد يستخدمون الصمت بطرق مختلفة يعنون بها أشياء مختلفة. وبسبب وجود أنظمة تواصل مختلفة بين الأطراف، فإن ما يعتقدون أنهم يوصلونه من خلال صمتهم ليس بالضرورة هو ما يفسر به هذا الصمت.

تم تحديد ثلاث مناطق يبرز فيها الصمت خلال الوساطة. فقد يدل الصمت على خوف، أو نمط تواصل ثقافي، أو اهتمام. الصمت في سياق الخوف قد يشير إلى اختلال توازن كبير في القوة بين الأطراف أو قد يعني أن مادة النقاش موضوع حساس ثقافيا: خوف على موضوع ثقافي حساس أو عدم الارتياح من مناقشة موضوع محدد. ثمة فوارق في إدراك الصمت (إيجابية وسلبية) في أنماط التواصل الثقافي. الصمت إزاء موضوع بعينه قد يعني أن الأطراف مازالت غير مرتاحة لمناقشة موضوع معين، أو قد لا يمتلكون الأدوات اللازمة للتعامل بشكل ملائم مع موضوع ما، أو قد يمرون بعدم توازن في القوة من شأنه أن يعوق اكتشافا أكثر شمولا للموضوع. قد يكون طرفا أو أكثر يمارس قوته بشكل مفرط لإزاحة موضوع معين أو إنكاره، كي لا يعالج أو يوضع في جدول الأعمال.

الاستخدامات الإشكالية للصمت

الاستخدامات الإشكالية للصمت هي تلك التي تخرب العلاقة بين الأطراف. استخدام الصمت المتسبب في أذى الأطراف المتنازعة قد يدل على صدمة جماعية غير معبر عنها تحتاج إلى المعالجة، أو قد تكون دليلا على استخدامات (أو إساءة استخدامات) القوة. الديناميكيات المعينة في علاقة قوة محددة قد تزيد الضغط على الأطراف، متسببة في مزيد من الإضعاف وبالنتيجة الأذى لطرف أو أكثر.

الصمت في حالة الصدمة الجماعية

تقترح واجنرباي (2001) أن الصمت عادة ما يعني إيصال ما لا يستطاع إيصاله. في كتابها هذا، تعيد واجنرباي قصة ناجية من الهولوكوست عادت إلى قريتها بعد الحرب. كانت أسرة هذه الناجية قد أخذت إلى المعتقل الجماعي وقتلت. في هذا الوضع، لم تجد الناجية الكلمات الملائمة لإيصال ماذا يعني أن تكون أسرتها قد قتلت بكاملها. علقت واجنرباي على هذا “بعد غربلة بضعة خيارات لفظية، عادت إلى الصمت، باعتباره الاستجابة الوحيدة الملائمة إزاء هذه الكارثة”. في بعض الظروف، تنجم الصدمة عن حدث لا يمكن التعبير عنه بسهولة. في محاولة الوصول إلى حل ما، فإن مناقشة هذا الحدث قد تضع عليه قيودا أو ينكر. هذا النوع من الصمت يمكن أن يشل الأفراد الذين خبروا هذا الحدث مباشرة، وكذلك الجماعات. هذا الصمت السلبي يمكن أن يكون أيضا ذا آثار قصوى محتمة على الأطراف غير المباشرة، مثل أطفال الناجين. من أمثلة الصمت السلبي، ذلك المتمحور حول الانتهاك الجنسي والنفسي والعاطفي والجسدي المرتكب ضد أطفال المواطنين الأصليين (الأبُرْجِنال) في مدارس المستوطنات في كندا. استخدم الصمت من قبل الطرف الأكثر قوة لإنكار الواقعة وإعادة رواية التجربة من قبل فرد أو جماعة. في إنكار إمكانية وجود فضاء المشاركة، لوضع الخبرات تحت الضوء وشرحها، يكون النزاع قد فوقم، والعزلة الاجتماعية صارت أسوأ والصدع العاطفي بين الأطراف قد تعمق (وولنر 2009). في وضع اختلال توازن القوة الواضح بين الأطراف، تمكن زيادة وقت أطول للسماح للطرف الأقل قوة أو امتيازا بالتعبير عن رأيه وإبانته، وعن مصالحه وانشغالاته.

* لم نر داعيا لإثبات مراجع المؤلف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى