اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

درنة الستينيات (الجزء الأول)

نجيب الحصادي

في الستينيات كانت درنة فرحة بنفسها، بهية وطازجة، ولم يكن سر بهائها وطزاجتها شيئا بعينه، أو حتى أشياء بعينها، بل كل ما فيها. غير أن احتفاءها بالجمال شكل في تقديري أهم خصوصياتها، فقد كانت أيقونته المحلية بامتياز.

وقد تمظهر هذا الاحتفاء أولا في غرام أهلها بالموسيقى والطرب، وبآلة صغيرة (الزمارة) كان كثير من شبابها يستمتعون بها ويتقنون العزف عليها. وكانت هناك حالة من الانبهار بالفن المصري، الذي كان يمر بأوج عصور ازدهاره. ومن الطقوس المتواترة حين نتعرف على شخص أول مرة سؤاله، ليس عن قبيلته، بل عما إذا كان من عشاق عبد الوهاب أو فريد الأطرش، إذ لم يكن من المتوقع ألا يحب أحدهما، ولا من المألوف أن يحب كليهما. وهذا يعني أن الموسيقى تمكنت من الأنفس إلى أن أصبحت موضعا لاتخاذ المواقف.

مجلة الصباح الخير

وفي الأعراس الشعبية كانت الموسيقى حاضرة، بل أهم ما فيها. وكان الشباب يتجمعون في العرس بصرف النظر عن علاقتهم بأهل العريس أو العروس، فالكل مدعو للفرح، وللاستماع والاستمتاع بترديد الأغاني وراء مطرب الحفل. أما الخميس الأول من كل شهر فموعد ينتظره الجميع، ويحسبون الأيام التي تفصلهم عنه، ففي هذا اليوم تحيي كوكب الشرق، التي لا يختلف عليها أحد، حفلها الشهري الذي عادة ما تستهله بأغنية جديدة. ومنذ ساعات الصباح الأولى كانت تسري في المدينة روح الحفل المنتظر، فلا حديث بين الناس إلا عنه، وفيما يشرع الجميع في الإعداد للسهرة، بالبحث عن أجهزة التسجيل وشراء بطارياتها، تراهم يتبادلون كلمات الأغنية الجديدة، التي غالبا ما يعلَن عنها مسبقا على صفحات مجلة “صباح الخير”، التي كانت تصل إلى درنة غداة صدورها في القاهرة. وكانت السهرة تتوج بوجبة “مكارونية بالسوقو”، التي تفوح منها رائحة الحبق. أما جلسات اليوم التالي فهي نقدية بامتياز، فهذا يبدي إعجابه بالمقدمة الموسيقية، وذاك ينبه إلى صولهات الكمان أو الناي، وهذا يعترض على غناء أم كلثوم لعبد الوهاب، فوحده السبناطي القادر على ترويض صوتها، وذاك يسوؤه أن يؤلف لها غير شوقي وبيرم ورامي، فوحدهم يليقون بمقامها. وكان هناك أيضا حفل سنوي ينتظره الجميع، الحفل الذي يغني فيه عبد الحليم أغنية وطنية جديدة، عادة ما تكون من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل.

وكان لظهور شخصيات من أمثال سالم بن زابيه ومصطفى البتير أثر مهم في تطوير الولع الدرناوي الفطري بالموسيقى، وقد أثمر التعاون بينهما، فضلا عن جهود فنانين من أمثال البلالي وليزي، عن تشكيل فرقة درنة للفنون الشعبية التي طافت بمدن ليبيا وبعض مدن العالم تبهر المشاهدين بأدائها المميز. أما الفرق الصوفية فكانت تحتفي بالجمال بطريقتها الخاصة، وكان الدراونة يتفننون في اختيار أورادها وقصائدها، وفي تطوير إيقاعات موسيقاها والرقص على أنغامها، وكان الكثيرون يجدون في الانضمام إلى تلك الطرق متعة جمالية، تصاحب الأجواء الروحية التي تثيرها. وكان هناك نوع من التنافس الخفي بين هذه الطرق، التي لم تكن لتجد إلا في الشدو والغناء موضعا لتنافسها.

وكان من الطبيعي أن يصاحب الغرام الدرناوي بالموسيقى بغرام آخر بالسينما، فهي تمظهر لا يقل أهمية للجمال. كانت هناك داران للعرض، سينما الزني وسينما التاجوري، وفي منتصف الستينيات افتتح مفتاح بوخطوة دار عرض رويال. وكان للزني أيضا دار عرض لا سقف لها، تعرض فيها الأفلام في فترة الصيف. ولتجربة مشاهدة فلم في الهواء الطلق مذاق خاص، خصوصا حين تسري نسمة عطرة من “مقهى الزهور”، الذي يقابل الدار، وهو مقهى يقع في ركن حديقة للزهور تشرف على الوادي، وفيه يستمتع الرواد بعبق الورود وسماع أغاني سيدة الغناء.

وفي رويال أصبح الدراونة يشاهدون أحدث الأفلام الأمريكية في دار عرض فاخرة. وكانت رويال توزع كل أسبوع مطوية ترصد كل فلم من أفلام الأسبوع التالي، أبطاله، ومخرجه، ومنتجه، ومدير تصويره، مدونة بالإنغليزية. وبطبيعة الحال، كان المغرمون بالموسيقى يجدون ضالتهم في الأفلام الغنائية، أفلام عبد الحليم حافظ وأفلام فريد الأطرش، حيث تتكثف درجة انتشائهم حين يشاهدون من أغرموا بطربهم. وأذكر أن فلم “سنجام” الهندي حقق إيرادات هائلة بسبب أغانيه، أما فلم “أبي فوق الشجرة” فلم يحققها بسبب أغانيه فحسب، بل أيضا بسبب القبلات التي كانت الجماهير تعدها بصوت جماعي. وعالم السينما هو درب الجميع للعلاقات الرومانسية، فمنها يتعلمون الوقوع في الغرام وضرب مواعيده وكتابة رسائله، كما كان وسيلة للمتعة البريئة عن كل مقصد.

يوسف وهبي وأمينة رزق

غير أن هذا العالم البهي لم يكن متاحا لي إلا في أضيق الحدود. فقد كان رأي والدي في السينما كما أسلفت لا يختلف عن رأيه في الموسيقى، فكلاهما ضرب من اللهو الذي لا طائل من ورائه. وحين أصبحت طالبا في الثانوية، سمح لي ولأخي بدخول الأفلام الدينية، مثل “واإسلاماه” و”ظهور الإسلام”، و”صلاح الدين”، فضلا عن حفلة الأطفال يوم الجمعة، ربما لأنه كان يتوقع أن تعرض فيها أفلام تناسب عمرينا. وحين جاء يوسف وهبي وأمينة رزق لعرض مسرحية في دار عرض رويال، لم يكن أمامنا من خيار سوى السطو على ثمن التذاكر من “شكمازة” الدكان، بكل المخاطر التي اكتنفها هذا المسلك، والتي أبدينا استعدادا لتحملها لأن فكرة أن يأتي عملاقان من هذا الطراز دون مشاهدتهما لم تكن في الحسبان. وحين رمقنا أخي حسين في الصفوف الخلفية، عرف كل شيء، لكنه سرعان ما أشاح بوجهه، فقد كان بحسه الفني المتميز يقدر تماما ما ألمّ بنا.

وفي درنة كان التصنيف “درنيسي/اتحادي” تصنيفا مدنيا بامتياز، ينضاف إلى التصنيف الطربي سالف الذكر، فكانت مناطق وأسر بأسرها تنتمي إلى أحد الفريقين، وكان ذوو الأصول البدوية الذي ينتمي إلى أحد هذين الناديين يجد ابن المدينة الذي ينتمي إلى هذا النادي أقرب إليه من شريكه في تلك الأصول. وفي العقود التالية، ومنذ أن توقف التنافس بين الناديين، عادت القبلية تطل بوجهها القميئ، وتتفنن، على حد تعبير عبد السلام العجيلي، في إشعال النار في العسل.

وعلى الرغم من شدة التنافس بين الناديين، لم تكن هناك حوادث شغب تذكر. ولم يكن التنافس رياضيا فحسب، بل فنيا وثقافيا، فقد كان أبناء كل ناد يجدّون في المناسبات الوطنية والدينية في التحضير لإحياء الحفلات الموسيقية وعرض المسرحيات الكوميدية وإقامة الأمسيات الشعرية.

عاشور الزروق
وكان الجميع يعرف تفاصيل حياة اللاعبين، يتابعها ويتقصاها، فحس “قيادة الأحوال” عال عند الدراونة أصلا، فكيف وموضعها نجوم الكرة. وحين سطا أحدهم على نعجة قبيل يوم العيد الأضحى من بيت جار له، كان جمهور النادي الآخر يقلدون صوت النعاج كلما استلم الكرة، فيما سمي هدف دارنس في مرمى الاتحاد بهدف العريس، فقد سجله عاشور الزروق الذي احتفل بزفافه في الليلة السابقة. وباستمرار ظلت العلاقة بين أفراد وجمهور الفريقين يسودها الود والاحترام وحتى الدعابة. وهاهما لاعبان من فريق دارنس، الطشاني والطيرة، يدبران صبيحة مباراة الدربي مكيدة لصديقهما عبد الله السبيع، اللاعب في فريق الاتحاد، فيقيدانه على جذع نخلة. وهاهم مشجعو الفريقين ينبهون صالح وحيش، الذي كان مطاردا من قبل الشرطة العسكرية، إلى دخولهم الملعب بحثا عنه، فيغتنم فرصة ضرب ركنية ويقفز من سور الملعب. وحين ضُم دارنس إلى الاتحاد، لم يتردد بعض لاعبي دارنس في الانضمام إلى الاتحاد، فقد كان غرامهم بفن الكرة أقوى من أي انتماء، وكانت فرصة لا تعوض للتباري بين الطشاني ورقص اللذين اشتهرا بهواية اللهو البريء واختلاق مناسبات للضحك.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى