كتَـــــاب الموقع

درنة الستينيات (الجزء الثاني)

نجيب الحصادي

ولم يكن احتفاء الدراونة بالضحك يقتصر على أحد، وقد ظهرت في درنة شخصيات اشتهرت بمواقفها الطريفة، منهم حمد النويصري المسرحي الشهير، وإبراهيم سلطان الذي كان يمثل ويغني في حفلات نادي الاتحاد، وعبد الحميد بوجيدار الحكم في لعبة كرة القدم، وحسن دربي، المتعصب للأفريقي، الذي يجد نفسه مضطرا لدخول نادي دارنس، فيستغرب الجميع قدومه، فيقول وهو يحييهم بكلتا يديه “زيارة الخزي والعار”. وما كان
حس الدعابة المحتفى بأصحابه مجرد تمظهر للاحتفاء بفن الضحك، فهو ينبئ عن فطنة وحساسية للمفارقة وقدرة على افتعال المواقف وتمرد على ما يألفه عموم الناس. غير أنه لم يكن يضمر سخرية من الآخرين ولا تقليلا من شأنهم، بل تعبيرا جسديا عن حالة الانتشاء التي تغمر نفوسا مقبلة على الحياة.

ولم يكن احتفاء الدراونة اليومي بالجمال يقتصر على الموسيقا وكرة القدم والضحك، بل يستبان أيضا في عنايتهم المفرطة بالياسمين والورود، وبتنسيق حدائق بيوتهم وأصص شققهم، وحتى في ذائقتهم للطعام، فأهل درنة ذوو مهارة خاصة في الطبخ، وحتى في إعداد الشاي، وإضافة الزهر أو المردقوش أو النعناع، كل حسب توقيت سنوي معروف لديهم.

إبراهيم الأسطى عمر

وما كان لمجتمع يحتفي بالجمال إلا ينزّل الأدب بشتى صنوفه منزلة تليق به. وقد عرفت درنة العديد من الشعراء المتميزين، الذين أثروا الحياة الأدبية الليبية في الستينيات، أذكر منهم الماجري وشنيب وتربح والحصادي (الحيروش) وبن عمران والغزواني والدلال، ومن بعدهم سوف يأتي باطاو والخرم، ثم العوكلي والعجيلي وبلو والطرابلسي، والقائمة تطول. وقد كان لفرع جمعية عمر المختار في درنة ولشخصية قائدها إبراهيم الأسطى عمر الأثر الحاسم في تنشئة شعراءالستينيات.

فإذا تحدثنا عن التعليم في درنة ذلك العقد، فلا يكتمل حديثنا إلا بذكر الشخصيات التربوية المميزة التي أنجبتها هذه المدينة، والأثر المميز الذي أحدثته في تبوء أبنائها من التعليم منزلة خاصة. وعلى مستوى تعليم البنات تحديدا، هناك “فتحية عاشور”، التي عرفت بحرصها على الانضباط ومحاسبة المقصرين، أساتذة كانوا أم طالبات. وهناك على مستوى تعليم البنين عبد الكريم فيتور، مدير مدرسة الأسطى عمر الثانوية، الذي حرص على إقامة علاقة احترام متبادل مع الطلاب، وعلى الاهتمام بشكل خاص بالمتفوقين منهم.

وعلى مستوى التدريس، عرفت درنة كفاءات استثنائية خصوصا في تدريس اللغة العربية، أذكر منهم عبد المنعم الرباطي ورافع القحيثي وعبد اللطيف شاهين وصالح ساسي، كما عرفت خريجي الأزهر الشريف، أصحاب الكلمة الفصل في النقاشات الدينية التي كانت تحلو للدراونة.

سوق الظلام

وكان سوق الظلام مثابة يؤوب إليها الجميع في تطوافهم اليومي. ثمة سكينة تعم أرجاء المكان، ومنه كنا نشتم عبق التاريخ. وعن هذا السوق تتفرع ثلاثة شوارع، واحد يقود إلى المسجد العتيق، وآخر إلى الكنيسة، وثالث عرف بزنقة اليهود، في إعلان صريح عن الروح التسامحية التي تسم الدراونة. وفي المسجد العتيق، كانت السكينة تعم الأفئدة، وفيه كنت أستريح من ضجيج السوق، ومن لغط الآخرين، وكانت أصوات المقرئين المصريين تحرك في نفسي أشجانا مختلطة، فيما كانت نفحاته الروحية تؤكد ثقتي في قيم الحق والخير والجمال التي ما فتئت أتشبث بعروتها.

وفي قصة تختزل القيم السائدة بين تجار السوق آنذاك، حكى لي الأستاذ محمد حنيش أن شابا بدويا وقف على الحاج فرج المحجوب في متجره، وقال له، بعد أن ألقى السلام عليه، “أنا ابن فلان، الذي وافاه الأجل منذ أيام، وقد أخبرني وهو في النزع الأخير بأن عليه دينا لآل المحجوب، وبأنه لن يستريح في قبره إلى أن أدفع عنه دينه”.

وبعد أن تقدم الحاج فرج بواجب العزاء، فتح “دفتر الدين” وطفق يبحث عن اسم والد ذلك الشاب، فلم يعثر عليه، وحين أخبره بذلك أصر الشاب أن يبحث عنه ثانية، لعله لم ينتبه إليه، فلما لم يجده طلب منه البحث عنه في دفاتره في البيت. قال له الحاج فرج “لقد أذن الظهر، فدعنا نذهب إلى الصلاة، ومنها إلى البيت كي نتغدى، وبعدها سوف نبحث على مهلنا”، فاعتذر الشاب لأن أبيه اعتاد “حين يحدّر” إلى درنة أن يتناول الغداء عند صديق له، الحاج صالح استيتة، وبوده ألا يقطع هذه العادة حفاظا على العلاقة بين الاسرتين. اتفقا على أن يلتقيا عشية، وحين التقيا بادر الحاج بقوله لقد وجدت ضالتنا، فثمة صفحة في الدفتر باسم “البدوي اللي يتغدى عند صالح استيتة”. هكذا كان قدر ثقة الناس في بعضهم البعض.

سوق الخرازة

وسوق الظلام يفضي إلى سوق الخرازة، مأوى دراويش المدينة، ودراويش المدينة جديرون بالتوقف عندهم. حقيقة أن أبناء درنة لم يكونوا يعتبرونهم مجانين بل دراويش مهمة، فهي لفظة ذات مضمون ديني، تشي بأنهم كانوا يتباركون بهم، ولذا تراهم يعطفون عليهم، ويذودون عنهم ويؤدون حاجاتهم.

سوق الظلام يفضي أيضا إلى سوق الخضرة، حيث تبوح المدينة بروائحها. وفي ركن قريب منه كانت مكتبة المدينة، بالقيّم عليها الشيخ المكي حسان، الذي كان ذا مهابة خاصة، وكان يرقبنا ونحن نفتش عن الكتب والمجلات، ولا يني يرشدنا إلى ما تليق قراءته بأعمارنا.

تلك كانت لمحات عابرة عن مدينة عشت فيها عقدين من الزمان، ثم رحلت عنها، وظللت أهفو ما تبقى من عمري إلى العودة إليها. عادة ما يؤخذ على أبناء هذه المدينة شدة التعصب إليها، وهو مأخذ محق، فالتعصب لأي شيء مسلك مقيت. ولكن على الرغم من أني أكن انتماء قويا لبنغازي، التي عشت فيها ثلاثة عقود، وتعلمت في جامعتها، ودرّست فيها أكثر من عقدين ونصف، بل أعتبر نفسي أحد أبنائها، وعلى الرغم من أني عشت خمس سنوات في واشنطن، وأربع سنوات في ماديسون، وست سنوات في العين، ظل حنيني إلى درنة الأشد والأقوى. غير أني لا ألتمس تفسيرا لهذا الحنين إلا في بيت شوقي الذي يقول فيه: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى