كتَـــــاب الموقع

خليفة حفتر والمؤسسة.. وآخرون

حمزة جبودة

(1)

في زحمة الحدث الأبرز الذي يتصدّر عناوين الأخبار الليبية وغيرها، حول حالة المشير خليفة حفتر، يبرز الحدث الأكثر جدلا في ليبيا، عنوانه الفرح بموت الرجل، أو بموت خليفة حفتر “المتقاعد” وفق الصيغة التي تتبنّاها بعض وسائل الإعلام.

أعرف يقينا، أن حفتر يُعتبر شخصية جدلية في ليبيا، وأنه خصم لذوذ لتيار الإسلام السياسي- لاحظوا أنني لم أكتب العدو اللذوذ-، مفردة الخصم، أكثر لطافة من مفردة العدوّ، وأكثرها سلاسة من غيرها. ولكن أن يصل الأمر إلى خروج العشرات وربما الأقل فرحًا بموت الرجل في الميادين، فهذه تعتبر ظاهرة جديدة في ليبيا، تُضاف إلى الظواهر التي صنعها لنا أمراء الحرب بعد ثورة فبراير، ويجب توثيقها لدراستها ومعرفة أسبابها الجوهرية، لأن هذا الأمر يعتبر تراجع أخلاقيا بكل المقاييس، وحالة إفلاس حقيقية، تعكس مدى الفشل الذي وصل إليه التيار المعارض للمشير حفتر، والمؤسسة العسكرية بشكل عام.

(2)

ماذا يعني أن يموت الرجل؟ وماذا يعني أن تنته المؤسسة العسكرية؟ هذان السؤلان جوهر الحدث الذي نعيشه في ليبيا، وإن استطعنا الإجابة عليهما بكل وضوح، يُمكننا تجاوز أي مرحلة قادمة في ليبيا، بكل هدوء.

ربط المؤسسة العسكرية بفرد واحد، هي أكبر المشاكل التي نُواجهها اليوم في ليبيا، وأكثرها خطورة، لأن ليبيا سبق وأن عاشت تجربة الرجل الأوحد، وكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس، إن قارنّا الحالة الليبية بالحالة المصرية والتونسية بعد ربيع الثورات، وكيف استقرتا “تونس ومصر” نسبيًا بعد الثورة وكيف دخلت ليبيا، حينها في مرحلة حرجة، وأصبحت محجًا لكلّ إرهابيي العالم، كانت لسبب واحد، وهو أن ليبيا لم تكن تملك جيشًا متماسكا، حينها، ولا مؤسسة أمنية مستقلة، وأن كل المؤسسات الأمنية، على الأقل، تأتمر لشخص العقيد معمر القذافي. وبعد أن قُتل ” تفكّكت مؤسساتها. ولهذا علينا كأفراد ومؤسسات ترسيخ مفهوم المؤسسة لا ترسيخ الفرد الواحد، وقبل كل شيء، دراسة التاريخ الحديث، أو الطازج إن صحّت التسمية، ومعالجته بكشل عقلاني، بعيدا عن الشعارات الثورية والإقصائية، التي كانت نتائجها انهيار المنظومة الليبية.

(3)

الانتصار بموت رجل، هو اعتراف غير مُعلن بالفشل، وما حدث في بعض الميادين، يوم أمس وقبله، يُؤكّد أن من خرج احتفالا بعد أن تقاطرت الأخبار عن موت خليفة حفتر، لا يفهم تراتبية الأوضاع في ليبيا، ويجهل على طريقته، بأنه فشل حتى في بناء مؤسسة صغيرة تحفظ الأبرياء في مدينته، والأغرب من ذلك كله، أن المعارض لشخص المشير خليفة حفتر والمؤسسة العسكرية، يُنادي بشعار “لا لعسكرة الدولة” وفي ذات الوقت يدعم الكتائب والسرايا المسلحة، وكأن سلاح هذه الكتائب والسرايا، مُجرّد ألعاب للتسلية، لا أسلحة متوسطة وثقيلة حفظ أسمائها الأطفال والكبار.

عسكرة الدولة، بشكل لا لبس فيه، شخصيا أرفضه، وأنادي بالدولة المدنية، وأرفض دخول “العسكر” إلى السياسية، وإن حدث، على أي جندي أو ضابط، أن يخلع بزّته العسكرية، وأن يحترم القوانين واللوائح المتّبعة لحفظ النظام القائم في الدولة. ولا أعتقد أن الأغلبية في ليبيا معه.

أما أنت الذي ترفض “عسكرة الدولة” يجب أن تتوقف عن دعمك للسرايا الثورية، وبعدها يحقّ لك أن تُنادي بما شئت. حاول الجلوس مع نفسك، وأطرح عليها بعض الأسئلة، ومنها على سبيل المثال، هل أكره خليفة حفتر أو أكره المؤسسة العسكرية، وأيضا.. من سوّق لفكرة أن المؤسسة العسكرية خطرا على ليبيا؟ فكّر بشكل واقعي، بعيدا عن العواطف وعن الشعارات التي آمنت بها قبل سنوات، فكّر لوحدك، ولا تدع أيّ كان، التدخل في حريتك، حدّد موقفك بشجاعة، وقُله بكل ثبات، حاول أن تكتب على صفحة بيضاء، كل الأسماء التي دخلت المشهد السياسي والعسكري في ليبيا، حاول أن تقرأ المواقف جيدا، وأن تتأمّل النتائج لوحدك، والخروج بنهاية تُرضيك وترضي موقفك “المستقل”.

كل حدث له نهاية، وكل بداية لها أدواتها الخاصة، وطريقة تعاملها مع المتغيّرات التي تحدث من حوله. لن يُخلّد المشير خليفة حفتر في هذه الحياة، ولن يُخلّد الشيخ الصادق الغرياني. ولكن ليبيا هي الباقية فقط. الأرض لا تتبدل أبدا، ليبيا ماتزال على حالها، قبل وبعد.

استدعاء الشخصيتين، خليفة حفتر والصادق الغرياني، ليس عشوائيا في هذا الحديث، بل مقصودا، لأننا يبدوا ودون شعور منّا جميعا، صنعنا أصناما، من لاشيء، وأصبح كل فريق يرى في رمزه “مُقدّسا” من النقد، وأن من ينتقذه، إما خائن، وإما كافر، وما أسهل تلفيق التُهم وإلصاقها، حين نُريد ذلك!

باختصار، علينا الاتفاق على مفهوم واحد، وبعدها إن اختلفنا، لا بأس. علينا تحديد ما نُريد لليبيا، هل نُريدها دولة لها مؤسسات عسكرية وأمنية ومن ثمّ مؤسسات خدمية، أم إننا نُريد مؤسسات خدمية، ومن ثم مؤسسات عسكرية وأمنية، لأن فرقا شاسعا بين الاتفاقين، الأول يضمن استقرار البلاد وأمنها القومي، لتعمل بعدها المؤسسات الخدمية في مناخ طبيعي، لا أن تتدخل فيها الجماعات المسلحة “القبلية والجهوية” كما يحدث عادة في بعض المدن والمناطق في ليبيا، مند سنوات.

(4)

من حقّك أن تخلتف مع خليفة حفتر، لكن ليس من حقّك أن تكره المؤسسة العسكرية لبلدك، من حقّك أن تنتقد أي كان في ليبيا، ومن حقّك نقد أي مؤسسة في بلدك ،من حقك أن تقول ان المؤسسة العسكرية عبارة عن مجموعة من “الميلشيات”، إن كان لهدف وطني، وترى فيه بأن المؤسسة يجب إصلاحها، أو يجب أن لايكون أحدهم على رأسها، لتحفظ الأمن في ليبيا.

من حقّك أن تكتب وتخرج للميادين متى شئت، ولكنّ ليس من حقّك أن تتبنّى لُغة الكراهية، لأنها ستقتل آخرين، وستُساهم في تهجير الناس أيضا، بل ورُبّما تكون أنت في مراحل أخرى، لأنك ساهمت في إيقاض شُعلة الثورة وتصنيف الناس على هواك، متى شئت.

الخروج للميادين بشكل عام، تغيّر مفهومه في ليبيا، ورُبّما في كل الدول التي شهدت الثورات، وأصبحت حكرا على مجموعة بعينها فقط، وأيّ صوت مُعارض لهذه المجموعة يتمّ التعامل معه بعُنف، كما حدث في المنطقة الغربية في أحداث “حرق المطار” وما بعدها، ومن ثُمّ ساهمت في صنع الكراهية وتهجير الأهالي من مناطقهم.

ولكنّ مفهومه اليوم أصبح أكثر “رُعبا” مما قبل، وتطورّ إلى مراحل مفصلية في ليبيا، وأصبح مناسبة الخروج للميادين، بسبب أن أحدهم قد مات! وهذا ما سيزيد الفجوة مستقبلا إن حاول طرفا ما أو مجموعة ترسيخه، حين يسمع أو يقرأ أو يشاهد، أن “خصمه” لا “عدوّه” قد مات، أو قُتل، ويُشجع الآخرين على مشاركته والابتهاج والفرح.

(5)

في السادس عشر من مايو، اليوم الجمعة 2014، خرج “المتقاعد” خليفة حفتر، وأعلن عن عملية عسكرية، أسماها “عملية الكرامة” ضد الجماعات الإرهابية في بنغازي، في وقت كانت فيه بنغازي، تنزف دمًا وتبكي منتظرة من يُنقذها من الدوّامة التي كانت فيها، من اغتيالات وفوضى بالمدينة، أدّت إلى مقتل العديد من المدنيين والعسكريين والنشطاء في المؤسسات الأهلية.

حينها خرج بعض الضباط والجنود تحت قيادة حفتر، عتادهم أسلحة متوسطة وثقيلة، قديمة وطيران متهالك، وأعلنوا أن عمليتهم لن تتوقف وأن معركتهم الحقيقية ضد الإرهاب، وأنهم لن يتوقفوا حتى تحرير المدنية من تلك الجماعات المتطرفة.

وأذكر جيدا أنني في تلك الفترة، دخلت في حوار حادّ مع أحد الرافضين للعملية، وكنّا وقتها متفقين على شيء واحد، أن بنغازي تُعاني من الجماعات المتطرفة، ولكنّ اختلافنا كان في شخص خليفة حفتر، لا العملية العسكرية، وحسمت الأمر بعد تبادل للمعلومات والأخبار وقتها، أنني سأؤيد العملية ولا يهمنّي من يقودها وقتها، إن كان خليفة حفتر، أو يوسف المنقوش، أو غيره من الضباط الليبيين.

(6)

ليس أخيرا هذه المرّة، لأن الحدث ما يزال يحتفظ بوهجه، والجميع يترقّب، منهم للاحتفال ومنهم للحُزن.. أما الطرف الثالث في هذه “الملهاة” فإنهم المنسيون دومًا، أبناء المؤسسة العسكرية، رجال الجيش، من دفعوا الثمن غاليا لأجلها، رجال الصاعقة، الشباب الذي خرج نُصرةً للجيش، الذين فقدناهم، وليس أولهم أو آخرهم،طارق السعيطي، كُثر تزدحم الذاكرة بأسماءهم وأفعالهم التي لن ينساها أهالي بنغازي والليبيين.. الطرف الثالث من هذه المعادلة القاسية للحدث، الذي دفع الثمن الباهض والثقيل حدّ الوجع الذي لا يهدأ. وكانوا رجالا للمؤسسة التي لن تسقط أبدا، لأنهم لم ينتهوا ولن ينتهوا، المنسيون في المعادلة، هُم الرهان وهُم كل المؤسسة إن شئتم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى