كتَـــــاب الموقع

خسارات الشاعر الملهمة

سالم العوكلي

يقول هنري ميلر في لقاء معه: “أتمنى هذه الأيام إعادة قراءة حياة غوته، وقصة حبه الأخيرة ، أريد أن أعرف بماذا أحس ـ ذاك الرجل العظيم والأوروبي العظيم ـ عندما وقع في غرام فتاة صغيرة رفضته، في حين كان العالم بأسره يعتبره إلهاً”.

الروائي رينيه دو مونترلان صاحب خماسية الصبايا والتي قرأتها بشغف في الثمانينات، انتحر في نهاية عمره بشكل مأساوي. فقد البصر بعد تعرضه لحادث، وفي يوم الاعتدال الشمسي في سبتمبر حين يكون النهار مساويا لليل، ابتلع كبسولة سيانيد وأطلق النار داخل فمه، تاركا ملاحظة لصديقه جان كلود يقول فيها “أنا أعمى أقتل نفسي” ووضع عاشق النساء الصغيرات ومصارعة الثيران حدا لحياته بعد أن نجا من نطحة ثور إسباني قطعت محيط رئتيه، ومن التيفوئيد والاحتقان الرئوي، ومن جرح بليغ أصابه أثناء الحرب العالمية الأولى. ثمة رواية أخرى لسبب انتحار دي مونترلان لا يتذكر الروائي المحتجز أين صادفها، لكنه أحبها وتبناها بما تصبغه من جمال على فكرة وضع حد للحياة، تقول أن عاشق الفتيات الشغوف، كان يسير في الشارع يتبع عكازه حين تعثر وسقط، فسمع قهقهة بعض الفتيات العابرات، وفي تلك اللحظة شعر أن حياته يجب أن تتوقف. كان معبود النساء للدرجة التي كان يملي شروطاً غريبة على من يراسلنه طلباً لقضاء ليلة واحدة معهن، يروي في الجزء الأخير من خماسيته حكاية رفيقته المغربية الساذجة، خديجة، الأمية المصابة بالجذام، ويعتبرها أفضل علاقاته على الإطلاق، لأنها كانت ترافقه دون أن تناقشه عن كتبه ودون أن تطمح لأن تعلق بشهرته، أو بالأحرى دون أن تعرف أنه كاتب.

هنري ميللر ـــ الذي أحب في بداية مراهقته امرأة تكبره بخمس عشرة سنة، وهو الحب الذي يسميه شفقة: “إنها تجربة حب باعثة على الرثاء لأنها تقوم على الرأفة ولم أكن قادراً على فراقها وذلك رأفة بها. لا أريد تحطيمها وكل هذا بالنتيجة سيء جداً”. ولاحقاً كما يقول كانت نساؤه أصغر منه سناًـــ كان يتمنى أن يعرف إحساس رجل عظيم مثل غوته رفضت حبه فتاة صغيرة. لا أعرف إن كان إحساسه مثل زوربا الذي يستمتع بالعلاقات حتى وإن كانت تقوم خارج جسده؟ أو مثل صديقي الفنان فتحي الشويهدي الذي ترى بريق الفرح في عينيه عندما يحدثه آخر عن مغامرة جسدية، وكأنك تحدث بدوياً عن سقوط أمطار حتى وإن كانت في أرض بعيدة عنه؟ أم كان إحساس غوته مثل بعض الطغاة الذين يعتقدون أن بمقدورهم امتلاك كل ما يرغبون فيه وإن كل الكائنات طوع أمره. وربما تأتى عنف بعض الطغاة من حالات رفض مثل هذه حصلت في بدليلت حيواتهم.

هنري ميلر يبدو أنه لم يختبر مثل هذا الشعور، لذلك أحب أن يقرأه في تجربة شاعر عظيم آخر أحس للحظة بأنه جدير بأن يحصل على كل شيء. بيتهوفن الذي صاحبته أرستقراطية مبهورة بما يحيط به من هالة تمتزج فيها العبقرية والضوء، ولكنها تركته وتزوجت نبيلا واحتفت، وحين ألتقى به مصادفة ذهب صوبها وقال لها: في العام يوجد ملايين النبلاء لكن لا يوجد سوى بيتهوفن واحد. كان مصدر إحساس غوته ــ مثل بيتهوفن ــ الموهبة الاستثنائية في خلق فن يشبه حالات الوحي، لكن ثمة شعور إلهي أكثر رهبة منبعه القدرة على الحب بعمق في أي مرحلة من العمر، حتى وإن كان هذا الشغف من طرف واحد. عندما تصارح بمشاعرك امرأة تعتقد أنها وحيدة بلسانك المعسول وكل ما وهبتك التجربة من هالة، وتعتذر هي عن مبادلتك الشعور، عليك أن تكتشف في هذه الهزيمة أشياء لا تقدر بثمن، ولا تقارن بمداعبة في حديقة عامة أو هزة سرير. فلكل شخص نرجسيته العاتية واعتداده بذاته، وثمة دائما افتراضات خاطئة حيال هالتك يجب أن تتهاوى في داخلك كإسقالة بناء عمارة، ويقين ضلب يُلوى في يدك مثل سلك نحاسي. كان من البديهي والمنطقي والمسلم به أن تستجيب تلك الفتاة الصغيرة النكرة لرغبة غوته وتدخل التاريخ، لكن المنطق وما نعتقد أنه بديهي يضرب في الصميم، لأن الفتاة من الممكن أن تعبد غوته إله نفسه دون أن تعطيه روحها كأي وثنية نرجسية. ولكن طالما أتحدث عن تلك الفتاة هنا ألم تدخل التاريخ حقا برفضها واعتدادها بذاتها؟.

أحب هنري ميلر أن يعرف إحساس غوته ، لكن أحب أنا أن أعرف إحساس تلك الفتاة الإلهة بطريقتها، فأحاسيس غوتة نابعة من التاريخ والهالة والسلطة، أما غطرسة الفتاة فنابعة من الغريزة وقوة الحياة والنزق الفتي الجامح كما في ذئبة برية يصعب ترويضها.

دائما ما نأسف أو نتحسر على زواج غير متوازن ونرجعه لأصله المرضي (عقدة إلكترا) أو (عقدة أوديب)، لأنه يبدو أن النظريات عن الحياة علمتنا التوازن والعلاقات المنطقية بشكل يجعلنا نعتبر كل ما ينتهكها مرضاً. عقدنا مرة ندوة ليلية على هامش أحد المهرجانات الشعرية، مجموعة من الشعراء الليبيين والعرب، وكان المحور الأساسي؛ أن يحدثنا كل شخص عن تجربته الأولى في فقدان عذريته، وتسعون في المائة من التجارب كانت اغتصاباً في بداية الصبا من نساء ناضجات. هل يرجع ذلك لضغط مجتمعات الكبت؟ أم لعقدة أوديب مقلوبة؟ أم بسبب سن اليأس التي تحاول أن تستعيد فتوتها عبرر هذا العناق الغريب؟ أم بسبب طقس أمومي يختبر نكهة اللذة المحرمة ؟.. ما أعرفه أن التوازن والمنطق، وحتى حكمة الجسد، تُضرب في الصميم، وأن تجاربنا الأولى لا تخلو من الجنون الذي نستقبله بدهشة يشوبها الهلع.

يشكل كل هذا معتكف للشعر حين يتقوت على لحظات الارتباك الكبرى أو هزائم الإنسان الواثق من جبروته ككائن ذكي وسط الكائنات التي يعتقد أنها غبية. أحاول مثابرا أن أطارد تلك الفراشات الهائمة الهاربة من ذاكرتي صوب نور الأسئلة البعيدة، وأن اتواشج مع ذكريات من أفردوا للشعر مسارب سيرهم المكتظة بالرونق وبالإحباط وبالتلكؤ أمام يقين النظريات.

أنا الآن أكتب سلسلة من المقالات عن وقائع من حياتي، أحاول من خلالها اكتشاف تكوين هذه الذات المشوشة إلى أبعد حد، كتبت عن أبي وأمي، وعن مفهوم الخيار الذي طالما راوغني، وعن علاقتنا الأولى بالراديو، عن بعض الورطات الإنسانية وعن تآمر الأشياء الجامدة على شخص واثق من تحكمه فيها، وعن صدمتى الأولى بالعتمة الكثيفة التي هربت منها إلى عتمة أكثر ألفة، وهو ما لازلت أفعله حتى الآن، إضاءة العتمة المطبقة بعتمة أقل ضراوة. تجربة الحياة فقيرة لكنها ستفي بالغرض، طفولتي هادئة ومطمئنة، وأكثر ما كان يثير فيها صوت الرعد وملاحقة الفراشات بين الأزهار البرية ودهشة الكتب الساذجة التي قرأتها في صباي، والتفرج على الكائنات في لحظات الشغف الكوني في مواسم الخصوية، لكن ثمة دائماً ما يُكتب وما يكفي لنزيف الحبر حتى آخر قطرة.

يكتب الشاعر راينر ماريا ريلكه في رسالة إلى شاعر ناشئ: “استعمل للتعبير الأشياء التي تحيط بك والصور التي تتخايل، والمواد المشكلة من ذكرياتك. وإذا ما تبين لك أن يومك فقير لا تتهمه، اتهم نفسك بأنك لست بعد شاعراً لتستدعي إليك ثراء اليومي. لا شيء فقير أمام المبدع، كما ليس ثمة أماكن فقيرة، لا دلالة لها، فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم، أفلا تبقى لك دائما طفولتك، هذه الثمينة، هذا الغنى الملكي، هذا الكنز من الذكريات . أدر إليها تفكيرك ..”.

هل ثمة ما يحفز أكثر من ذلك. إن الحياة ثرية بمجرد أنك تعيشها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى