كتَـــــاب الموقع

خديعة غريفز

عمر أبو القاسم الككلي

بقدر لا بأس به من البسهولة، خدعني، وضحك عليَّ (أو بالأحرى أضحكني من نفسي) السيد روبرت غريفز Robert Graves. والسيد روبرت غريفز هذا (1895- 1985) أديب إنغليزي شاعر وكاتب روايات تاريخية، وناقد ومهتم بالتاريخ الروماني واليوناني والكلاسيكيات اليونانية والرومانية. وربما لهذه المواهب مجتمعة تمكن من خداعي. والغريب أنه استطاع خداعي بعد حوالي خمس وثلاثين سنة من وفاته!.

لم تكن لي معرفة سابقة بالسيد غريفز، إذ تعرفت عليه، صدفة، بوصفه مهتما بالتاريخ القديم، من خلال عثوري على نسخة إلكترونية pdf من كتابه “أنا، كلاوديوس I, Claudius” وهو سيرة ذاتية للإمبراطور الروماني كلاوديوس (10 ق.م- 54 ب.م) الذي أصبح إمبراطورا في الفترة (41- 54 ب.م).

كلاوديوس هذا كان رابع إمبراطور في سلسلة الأباطرة الرومان بعد سقوط الجمهورية. وهو حفيد الإمبراطور مارك أنتوني صاحب قصة الحب المعروفة مع كليوبترا وابن ابن أخ أغسطس وأحد أفراد أسرة جوليو كلاوديان، أول أسرة إمبراطورية في تاريخ روما.

اُعتبر كلاوديوس من قبل أسرته ذاتها يعاني نوعا من التخلف العقلي والتشوه الجسدي المتمثل في تأتأته المحرجة وشلل الأطفال ورعاشات عصبية، لذا لم يكن طلاب السلطة يخشون منافسته، وضربت أسرته حوله عزلة شبه كاملة منعا له من الظهور في المناسبات الاجتماعية، واستمر ذلك إلى بلوغه سن الخمسين حين توج فجأة، ضمن ملابسات ومفارقات غريبة في مجريات الصراع على السلطة في روما، إمبراطورا.

هذه العزلة دفعته إلى القراءة وطلب العلم وتعلم اللغة الإغريقية والأتروسكانية التي كانت في طريقها إلى الاندثار حينها، ونشأ لديه اهتمام كبير بالتاريخ، فألف فيه كتابا مهما (مفقود) يؤرخ فيه للحروب الأهلية الرومانية، وصف بأنه كتاب صادق ونقدي في ما يتعلق بعهد الإمبراطور أغسطس جده بالتبني. ما جعل أمه أنطونيا وجدته ليفيا تسارعان إلى توقيفه عن نشره.

السيرة الذاتية مروية بصدق واضح واهتمام شديد بالتفاصيل وسرد على مستوى رفيع من الأدبية.

وكنت قد ترجمت منها صفحتين تنقلان وقائع نقاش في مجلس الشيوخ حول إقرار تأليه الإمبراطور أغسطس بعد موته، وحيل “إنتاج” المعجزات، وضعت لهما عنوان “سر نسر المعجزة”*.

إلا أنني فوجئت بعد مدة، بنوع من الصدفة أيضا، أن ما قرأته لم يكن سيرة ذاتية للإمبراطور كلاوديوس مترجمة إلى الإنغليزية من قبل روبرت غريفز، وإنما هي رواية من تأليفه اعتمد فيها على سيرة حياة كلاوديوس وأضاف إليها أحداثا من تأليفه!.

والحقيقة أنه كانت لي ملاحظة، لم تصل إلى درجة الشك، حول رواية كلاوديوس تفاصيل دقيقة لأحداث ووقائع لم يحضرها. أي أنه اتخذ سمة من سمات الرواي العليم، باستثناء أنه لم يتغلغل في النفسيات والضمائر، مثلما يفعل الراوي العليم [كلي الحضور]. فافترضت أنها عرف بها لاحقا من شهود عيان ثقات.

غريفز، في النسخة التي قرأتها، لم يصنف الكتاب على أنه رواية، كما لم يكتب أنه من ترجمته، رواية غريفز هذه صدرت سنة 1934. وله رواية أخرى بعنوان “كلاوديوس إلاها Claudius the God” صدرت سنة 1935. وقد استخدم غريفز حيلة مؤداها أن الكتابين قد اُكتشفا مؤخرا موحيا أنه يقدم ترجمة لهما عن الأصل، إذ أدمج رسائل وخطبا وأقوالا في متنيهما لتعزيز الإيحاء بالموثوقية.

في مقابلة معه سنة 1965، يصرح غريفز بأن الدافع الأساسي وراء كتابته “أنا كلاوديوس” تمثل في حاجته إلى المال ليسدد دينا كان في ذمته بسبب شراء أرض. كان محتاجا إلى 4000 جنيه استرليني، إلا أن الرواية حققت له ضعف هذا المردود خلال ستة أشهر من نشرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى