كتَـــــاب الموقع

(خجل الجمال.. جرأة الغناء)

المهدي التمامي

قبل أربعة أعوام مررت بحالة من الرهبة الشهية، كما لو أنني في حلم.. كان الضحى ينعكس على ثلوج قم الجبال العالية، وكان الفضاء الهائل مفتوحاً بعظمة، ومختوماً برمز معجز، تتلاشى في لا نهائيته احتمالاتنا الميسرة، وتنبثق منه عيون الغيب وهي تنظر إلى أسفل بجلال قاتم.

حتى الآن لم أتمكن من الخروج من حالة الرهبة التي تملكتني وأنا أصعد نحو بلدة (بشّري.. وغابة الأرز).. فقد كنت أردد في داخلي، في خشوع، كلام (عباس العقاد) الخالد: “والشاعر الفذ بين الناس رحمن”.. ذلك أنني سوف أكون في حضرة (جبران) كله.. هذا النبي الذي ترك لنا روحه الشعرية تنفخ فينا الجمال والطهر والسمو كلما بكت ثقوب النايات التي تعزفها الربات في ظلال الغابة السكرى..

لا أدري إن كنت قادراً على أن أنصف، أن أعيش هذا الموت المضيء لهذا الشاعر الخالد الذي لم يخش الموت، بل كان يؤسس له.. عبر أسطورته الخالدة “أعطني الناي وغني”.. ليستمر في عبوره الشعري إلى آخر الشعراء.. آخر قصيدة على الأرض..
لكنني عندما توسدت خده المغمور بحنان الأرض عند مدخل الدير.. همس في أذني بنداء خفي وقال: “أيها الشاعر أنا جبران.. نم على روح القصيدة.. فالشعر يجتبيك.. ولا تصح من هذا الحلم الجميل…!!!

لم أكن أعرف أن الجمال إبانته لا تكمن في صياغته… وإنما في أن نجرؤ على أن نقوله… ولم أكن أتوقع أن البساطة لها كل هذه القدرة على أن تناضل ضد تعقيدات الأصنام الزائفة التي تصعد بها سلطة الدعايات المأجورة.. حتى التقيت ذلك الشاعر الشفاف من جديد، وأنا متأرجح بين الأرض والسماء، ومن معي في ذهول، كقناديل ندية الضوء في مساء بلدته الشاهقة.. تساءلت وقتها؛ كيف لم أتوقع كل هذا البريق والدهشة.. فقبل أكثر من ثلاثين عاماً عرفت اسم جبران في كتاب للتليسي، كان مقروناً بالشابي، الشاعر الذي ولدته الطبيعة وأخذته سريعاً كزهرة لا تعيش إلا ربيعاً يتيماً.. الشاعر الذي فجر اللغة بنعومة خالدة.. وخرج من قيامته بذنوب الجمال وضوء التأمل..

عرفت بعدها أن الشاعر يجب أن يتخلق بعيداً عن طمأنينة التراث… وأن أغلب المعرفة التي تثقلني قد قضت نحبها منذ ذلك المنعطف المرعب الشهي الذي وجدته فيه، مثل كل خطوة صلبة تصعد إلى أعلى، نحو قدر عمودي وارف الظفر.. وآمنت معه أن كف الحرير قد تجرح “السامري”.. وأن أكثر الغانمين ترفاً قد تزعجه بصيرة الزهد… لأن غالبية الأسماء التي صعدت بها المعاني عالياً، لم تكن سوى فكرة مضللة… وأيقنت من جديد، رغم أني ضد اليقين، بأن الحقيقة تكمن في نورها الممتد بين ومضه السهل وموته الأسهل.. ففي هذه المسافة يمتد الحب نحو صيرورة لا تذبل… لأنها تمثل البراءة الأبدية.. لهذا نحن منذورون مع جبران.. لأن نحب المزيد من الجمال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى