مقالات مختارة

جيش موحّد لأوروبا المأزومة

مصطفى زين

منذ الحرب العالمية وأوروبا تعتمد على الولايات المتحدة عسكرياً. كان تدخل واشنطن عاملاً حاسماً في هزيمة الجيش الألماني، وخروج القارة من أزمتها الكبرى، ومن حروبها الداخلية خلال صراعها على المستعمرات. وبعد انتهاء الحرب وتقسيم ألمانيا تشكل حلف شمال الأطلسي للدفاع عن القارة في مواجهة الاتحاد السوفياتي. وطرحت في الخمسينات فكرة تشكيل جيش موحّد لكنها لم تر النور، ففرنسا وبريطانيا الخارجتان منهكتين من الحرب لم تكونا مستعدتين لمثل هذه الخطوة التي تتطلب الكثير من الأموال والجهد، فضلاً عن التوافق السياسي وانشغالهما في قمع حركات التحرر التي انطلقت في مستعمراتهما في آسيا وأفريقيا.

بعد أكثر من ستين سنة، وقّعت 23 دولة أوروبية اتفاقاً للتعاون العسكري، وعارضته بريطانيا والدنمارك. واعتبرت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي يوم التوقيع «تاريخياً». فما الدافع لإحياء هذه الفكرة القديمة؟ وفي مواجهة من ستكون هذه القوة الجديدة؟
الواقع أن ألمانيا وفرنسا كانتا المحرك الأساسي للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه، وكانت بريطانيا تنافسهما لكن تأثيرها في اتخاذ القرارات كان محدوداً، على ما يقول أكثر من مسؤول في لندن. وشكلت الدعوة إلى الاستقلال وعدم رضوخ «الإمبراطورية العظمى» لبروكسيل أهم شعار طرح خلال الاستفتاء على الخروج من الاتحاد. بعد «البريكسيت» تحررت برلين وباريس من المعارضة. وأصبح في استطاعتهما قيادة الاتحاد بحرية أكثر، فعادتا لطرح فكرة الدفاع المشترك، واستطاعتا الحصول على تأييد الغالبية لهذا المشروع الذي يحتاج إلى الكثير من التفاصيل والإجراءات لتنفيذه.

وشكلت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الحلف الأطلسي ومطالبته الاتحاد الأوروبي بمساهمة مالية أكبر في موازنته، ورفعه شعار «أميركا أولاً» وعلى من يريد حمايتنا «دفع الثمن»، حافزاً آخر لطرح بروكسيل مشروع «الاستقلال الإستراتيجي»، على رغم تأكيدها أن القوة العتيدة لن تكون منافساً للحلف، بل هي مكملة له، على ما قال رئيس المفوضية جان- كلود يونكر.

وترى بروكسيل أن تشكيل قوة دفاع «سيعزز الصناعات العسكرية الموحدة ويخفض الإنفاق العسكري، ويوطد القاعدة الصناعية ويشجع الإستثمار في هذا القطاع»، على ما جاء في الوثيقة التي أقرت الأسبوع الماضي.
لكن ليست التكاليف والاستثمارات وحدها وراء السعي إلى إنشاء هذه القوة الموحدة، فهناك أهداف استراتيجية كبيرة وراءها، ربما كان أهمها مواجهة روسيا التي تسعى إلى استعادة نفوذها في أوروبا الشرقية، بعدما ضمت شبه جزيرة القرم، ومنعت أوكرانيا من الإلتحاق بالغرب. أي أن وريث العدو القديم (الاتحاد السوفياتي) أصبح أكثر شراسة بعد تعزيز الكرملين الروح القومية الروسية وانطلاقها إلى الشرق الأوسط وتشكيلها حلفاً بديلاً من حلف وارسو أعضاؤه أكثر قوة، عسكرياً واقتصادياً، ولديهم طموحات الحلف القديم في القارة وخارجها.

ماذا عن علاقة هذه القوة الجديدة بالشرق الأوسط؟ الوثيقة التي تم توقيعها لم تذكر الاسم. لكن نظراً إلى التجارب السابقة والحالية وإلى علاقات الاتحاد مع دول المنطقة، نستطيع القول إنه سيتم التعاون معها على أساس «المصالح المشتركة» ومحاربة الإرهاب. وكان تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، بعد التوقيع، مؤشراً مهماً إلى ذلك، حين قال: «إن هذا التقدم (في تشكيل جيش أوروبي) يأتي وهناك توتر كبير» في القارة وقرب حدودها، ومهمة هذا الجيش الدفاع ومنع انتقال الأعداء إلى الداخل.
المستعمرون القدامى يشكلون جيشاً موحداً لتجاوز أزماتهم، والدول التي كانت خاضعة لهم تتفكك واحدة تلو الأخرى، وجيوشها تتحول إلى ما يشبه العصابات المتناحرة.

الحياة

زر الذهاب إلى الأعلى