كتَـــــاب الموقع

جريمتك يا قرنفل*

سالم العوكلي

كان يعرف أن خروجه في ذلك الصباح، رغم سوء الطقس واكتظاظ الأفق بغبار أصفر قادم من عمق الصحراء، محفوفا بنذور سيئة، لكن حاجته لسحب مرتبه من المدينة التي تبعد عن مسكنه مسافة ربع ساعة هو ما جعله يغامر في هذا الوقت المدجج بالسلاح، وفي هذه الطريق المملوءة بقطاع الطرق المتسكعين بتبجح إلهي في غياب كل مؤسسات الأمن والقانون عن المدينة وضواحيها. كان يستمع لأغنية فيروز (البير) من أجل أن يطرد الخوف، ومنذ الصغر كان يغني كلاما غير مفهوم وغير موزون كلما سار في طريق موحشة ومعتمة من أجل أن يطرد الخوف، لكن هذا الخوف الجديد الذي اجتاحه كهلا وفي عز النهار وفي طريق غير خالية من السابلة خوف مختلف، مصدره الإنسان المتوحش وليس الذئاب أو الضباع كما كان في صغره. الإنسان وحش يفكر وهنا مكمن خطورته ، حين يرغب في الإيذاء لن توقفه شعلة نار أو عصا أو طَرْق حجرين، أو سلاح أو أغنية مرتجلة.

“يا هالبير بعرف أنك ما عد حدا يملي منك .. ولكن خوفي ينزلوا عليك ويسرقوا السر منك .. إنشا لله يكون غرق الختم .. غرق وأخذوا العتم .. بس الختم خشب بيظلو على وجه المي .. جريمتك يا قرنفل عم تسبح ع وجه المي . عالبير المهجور نطرتك يا حبيبي .. والورد الحلو مكسور بالساحة يا حبيبي .. والعمر يدور والسر يدور بها البير المهجور. على بير الأسرار زرعني الحزن القاسي .. والفرح الأبيض طار والناسي بعدو ناسي. يا فرحة الأماسي على شباك الناسي” حين اجتازته عربة سوداء ودخلت أمامه فجأة وبشكل جعله يضغط على الكوابح توقفت أمامه بشكل ملتو لم يكن قد رآه سوى في أفلام المطاردات البوليسية .

حين حرك المارش للرجوع إلى الخلف والمناورة كان قد فات الأوان ونزل رجلان ملثمان يصوبان بندقيتي كلاشنكوف نحوه. وفي تلك اللحظة مرت حياته أمامه كشريط مضغوط، وأحس بحرارة الرصاص في جسده قبل أن يُطلق . فتح أحدهما الباب ونزعه بقوة من السيارة، وفي وقت أقل من اللحظة كانت العصابة فوق عينيه، وكان في المقعد الخلفي للسيارة السوداء، بين شخصين تفوح منهما رائحة عرق نفاثة .

حاول أن يعرف الطريق التي تسلكها السيارة وهو معصوب العينين، فهو يحفظ تضاريس المنطقة كلها والتفافات الطريق، والطرق الجبلية الصاعدة والهابطة. أطلق العنان لجسده كي يستجيب لهذه التضاريس ويحاول أن يرى الطريق عبر قوى توازنه الداخلية وعبر الاهتزازات، وعبر ميله المتبادل على الشخصين بجانبه في كل منعطف، لكن مختطفيه كانوا يحسبون حساب حتى هذه القدرة الخارقة على تحسس الاتجاهات عبر الجسد، فكان السائق يتوقف أحيانا ويدور دورة كاملة أو دورتين وينطلق حتى يشوش على بوصلة جسد المخطوف، وكان فعلا يفقد معالم الخارطة التي رسمها جسده كل مرة.

لم يكن إطلاق عنان حواسه لمعرفة الطريق والاتجاهات وليد اللحظة فهو عاش الفترة الماضية في هذه المنطقة التي انتشرت فيها حالات الخطف، وكان بعض المختطفين الذين أُطلق سراحهم، بعد دفع الفدية أو بعد إعلان التوبة مكتوبةً ومبصوما عليها بالإبهام، قد تحدث بعضهم عن تفاصيل خطفه، وكلهم اتفقوا عن عدم معرفة المكان الذي كانوا محجوزين به، وفكر هو مرارا في تمارين جسدية لتحديد الاتجاهات دون بصر، وكان في كل مشاويره يحاول أن يخزن خارطة الطرق في خلايا الجسد، وأحيانا يغمض عينيه ليعرف مدى رجع منعطف حاد في جسده أو منحدر أو تموجات طريق ترابية. ولكن كل تلك ورش العمل التي أقامها لجسده لم تفلح بتاتا في معرفة أين هو الآن.

يحاول وهو يتلمس الجدران حوله أن يخفف من وطأة الخوف الذي يعتريه بقوة ويجعل ريقه جافا وكأن نهار قبلي مَر على لسانه، وكانت ذاكرته في هذه اللحظة هي العالم الوحيد الذي يراه بوضوح تحت العصابة السوداء التي لا يعرف لماذا احتفظوا بها على عينيه رغم أن الخوف من معرفة الطريق قد أصبح من الماضي، لكنه فكر ربما المكان الذي يحتجز فيه له نوافذ أو إطلالة على مشاهد قد يعرف من خلالها عنوانه، أو أنهم أشخاص مألوفون له ولا يريدون له أن يتعرف عليهم، ورجح هذا السبب الثاني لأن مدينة درنة صغيرة وتقريبا كل الوجوه أليفة.

استغرق في ذاكرته محاولا بما جهزه من سيناريوهات لهذه الحالة التي كان يتوقعها أن يستعين بذخيرة الذاكرة من أجل التغلب على الرعب الذي يحيط به من كل جانب ، تذكر أولا حكاية والده عن احتجازه مع الآلاف في معتقل البريقة بالصحراء في العشرينيات إبان السيطرة الفاشية، ومن كل ما حكاه له والده تذكر احتجازه في غرفة من الزنك معصوب العينين لمدة ثلاثة أيام بعد أن اتُهِم باختلاس كيلو من الشعير من أجل ابنة عمه بهيجة المقيمة في خيمة وحدها بعد أن قتل جنود الحراسة الأحباش زوجها حين هجم على رأس مفرزة لتحرير الإبل التي تساق مع رحيل السكان إلى مصيرها المجهول في ذلك المعتقل القريب من شواطيء البريقة القاحلة. لم يحدثه أبوه عن تفاصيل دقائق تلك الأيام لكنه مر بها مرور الكرام، والآن هو يعرف تلك المعاناة من خلال الساعات التي قضاها في هذا المعتقل الفردي الصغير، والده كان يحكي ما أصبح في ذمة التاريخ لذلك من الممكن أن يختزل ألم ومعاناة شهور في سطر واحد، وهذا هو الفارق بين أن تقرأ أو تسمع التاريخ وبين أن تعيشه، فمدونة التاريخ التي تخلص للعناوين الكبيرة وللشخصيات المهمة وللأحداث المفصلية، تتجاوز تفاصيل الألم التي يتعرض لها أناس وكأنهم حشرات طفيلية تحبو في وبر فيل التاريخ، يتجاهلها كل واصف لهذا الحيوان العملاق.

لكنه الآن يستحضر ما تجاوزه والده من تفاصيل وفي الوقت نفسه يحشد عزمه ببعض القوة باعتبار أن معاناة والده أصبحت حكاية بعد أن خرج من ظلام المعتقل وعاش بعد خروجه من المعتقل حياة كاملة طولها 70 عاما ، أحب فيها وتزوج وأنجب أولادا وأحفادا، وحرث حقولا كثيرة، ولاحق أغناما وإبلا، وأدى فريضة الحج مرتين، ومات وهو في ذروة إحساسه بأنه عاش ما يكفي وكما ينبغي.

في تلك اللحظة عليه أن يفكر في والده والمحظوظين الذين اجتازوا محنة المعتقل وليس في عشرات الألوف الذين قضوا فيه دون أن يمنحهم التاريخ إيماءة واحدة منه.

استعاد حكايات والده بذاكرة تزداد حدة مع قطعة الظلام التي تغطي عينيه، عندما كانت أمه تعد الشاي في البيت الصفيحي قرب كانون النار الذي كان أبوه يقلب جمراته مثلما يقلب ذاكرته وهو يحدثه عن سني المعتقل، دون أن تغيب في صوته نبرة بهجة لعل مرجعها كونه الآن يحيل تلك السنوات الصعبة إلى حكاية يسلي بها ابنه بعد أن راوده إحساس طيلة تلك الفترة، بأنه لن يتزوج ولن يكون له أبناء، وأن الضباع والثعالب المتسكعة بقرب الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمعتقل، ستلتهم جثته وتترك عظامه مبعثرة على الرمال مثلما رأى أشلاء الآخرين مرارا وفي كل صباح عندما كان فتيا يرمق أطفال المعتقل وهم يتفرجون من خلف السياج الشائك على أشلاء تلتهمها الوحوش كانت منذ فترة قصيرة تسير معهم في الطريق الطويل إلى المعتقل.

كانت بهيجة التي كم تقاطر فرسان البدو لكسب رضاها إحدى تلك الأشلاء التي تتمزق بين انياب الضباع.

*من رواية (جريمتك يا قرنفل) تحت الإنجاز .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى