مقالات مختارة

ثورة على الطريقة البريطانية . الفصل الثاني

عادل درويش

يبدأ برلمان وستمنستر هذا الأسبوع مرحلة القراءة الثالثة – دراسة اللجان ومناقشة التعديل، في لغة مجلس العموم، قبل الصياغة النهائية لرفعه لمجلس اللوردات.
القراءة الثانية، كانت التصويت التاريخي في مساء الأربعاء بإعلان جون بيركو رئيس الجلسة النتيجة الرسمية بتصويت نواب شعوب المملكة المتحدة بأغلبية 498 صوتًا مقابل 114 صوتًا على تحويل العريضة البرلمانية رقم 132 بإصدار إخطار رسمي بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لتصبح قرارًا.
التصويت في أم البرلمانات، فريد من نوعه يتم بالسير طابورًا في إحدى ردهتين: ردهة الموافقة، على يمين القاعة. أو ردهة الرفض، على يسارها.
عند لحظة اتخاذ القرار يصيح كل جانب «نعم»، أو «لا». المجموعة الأعلى صوتًا وعددًا تكسب القرار، وفي حالة تساوي الضوضاء يعلن رئيس الجلسة، «الانقسام» ويرن جرس التصويت في كافة أنحاء قصر وستمنستر والمباني الملحقة به لثماني دقائق، يأمر رئيس الجلسة في نهايتها بغلق الأبواب حتى لا يخرج أو يدخل أحد. البقاء في القاعة يعني امتناعه عن التصويت. ويذهب أربعة لإحصاء عدد المارين بردهتي الرفض والقبول.
عندما أعلن جون بيركو، «أصحاب نعم حصلوا عليها» انطلقت صيحات الاستحسان وتفجرت عواطف شخصيات كوزير الدفاع السابق السير غيرالد هوارث ونظرائه من جيل الكبار كزعيم المحافظين الأسبق إيان دنكان – سميث، والوزراء السابقين جون ريدوود، وبيتر بوتومملي. لحظة توجت رحلة نصف قرن، وهم يقاومون جرّ المملكة المتحدة إلى وحدة فيدرالية أوروبية تذوب فيها الشخصية البريطانية المستقلة ذات الخصوصية العالمية – بالمفهوم التجاري – في الشرق البعيد والأقصى، وأفريقيا، وروابطها التاريخية بالبلدان العربية، روابط اضطرت بريطانيا لتقليصها أو تسليمها إلى مفوضية بروكسل بمعاهدتي ماستريخت ولشبونة.
تصويت الأربعاء كان الفصل الثاني، فالأول شرحناه في الشرق الأوسط 13746 بتاريخ 17 يوليو (تموز) والثورة على المؤسسة السياسية.
ووراء قرار تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة (وهي كمذكرة إنهاء العضوية في نادٍ) قصة دستورية معقدة.
فلأن الأمة هي المصدر الأعلى للسلطات حسب القاعدة الدستورية الفقهية، صوّت مجلس العموم في العام الماضي لمنح الأمة القرار النهائي عبر الاستفتاء. لم تكن النتيجة أمرًا للسلطة التنفيذية بالاستقلال عن الاتحاد الأوروبي وإعادة السيادة التشريعية إلى وستمنستر فحسب، بل كانت ثورة تعبر عن رفض قطاعات واسعة من الشعب التوازن الراهن الذي تمثله المؤسسة الحاكمة؛ ورفضًا لعنجهية المثقفين المسيطرة على صناعة الرأي العام خاصة في الشبكات التلفزيونية بإدارة خريجي جامعتي أكسفورد وكمبريدج. معظم الساسة ينتمون لشرائح المثقفين وغالبًا لا يلتزمون بوعودهم للدائرة الانتخابية، بحجة أنهم أكثر علمًا وثقافة من الناخب.
شبكة الإنترنت أتاحت للبسطاء الحصول على المعلومات مباشرة، ووسائل التواصل الاجتماعي كانت ساحة جدل مواز ونافذة مراقبة ومحاسبة الساسة، فتجاوز التصويت الأنماط التقليدية (أصحاب الأعمال والأراضي يصوتون للمحافظين، والطبقات العاملة للعمال، ومثقفو اليسار لليبراليين). ولذا كانت نتيجة استفتاء العام الماضي مفاجأة للمؤسسة.
تيارات لم تقبل نتيجة الاستفتاء لتشابك مصالحها المادية مع بروكسل تحاول إبقاء بريطانيا في الاتحاد التجأت للقضاء، فأفتت أعلى سلطة قضائية في المملكة بضرورة أن تكون للبرلمان الكلمة النهائية قبل تقديم مذكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
الحكومة المنتخبة بالأغلبية، ولديها تفويض مباشر من الأمة عبر الاستفتاء لم تحاول نقض قرار المحكمة أو الالتفاف حوله بتشريعات جديدة (رغم أغلبيتها البرلمانية) بل نفذت الحكم وقدمت العريضة 132 بمشروع قرار التفويض للبرلمان. محاضر الجلستين وثيقة من أفضل ما لدى ساسة بريطانيا من بلاغة وحكمة سياسية. رددوا أبياتًا من شكسبير، ومقاطع من الأدب الإنجليزي، ولزعماء سابقين، كان السير ونستون تشرشل أكثرهم رجوعًا لأقواله في مناظرات 18 ساعة كاملة. السير ويليام كاش، زعيم المناهضين للاتحاد الأوروبي ذكّر النواب الرافضين لمشروع القرار بأن نتيجة الاستفتاء ليست فقط أوامر مباشرة من الناخب، بل كانت تعبيرًا عن ثورة، والآن بدأ الفصل الثاني من الثورة.
وبعكس المعتاد تاريخيًا كان كبار السن والخبرة من النواب لا الشباب هم الملوحون براية الثورة كتعبير عن إرادة الشعب التي من الحماقة تجاهلها. لم يكن كل الـ(114) المصوتون بالرفض يتجاهلون إرادة الشعب؛ فالحزب القومي الاسكوتلندي مثلا (56 عضوًا) سياسته المعلنة البقاء في الاتحاد الأوروبي، صوت 54 بالرفض، وامتنع اثنان عن التصويت، كحال اثنين من الديمقراطيين الأحرار التسعة (سياستهم الرسمية مثل الاسكوتلنديين). وامتنع الأربعة عن التصويت بدل الرفض لأن دوائرهم صوتت بالخروج.
«رغبة أبناء الدائرة» طرحها النواب الرافضون لنتيجة الاستفتاء، إشكالية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات التي تحسم بتشكيل الحزب الفائز بأكبر عدد من الدوائر للحكومة. فلا يعقل أن يقترح نواب صوتت دوائرهم تكوين حكومة مستقلة.
فالحزب القومي الاسكوتلندي وعمدة لندن (أغلب الدوائر في المساحتين الجغرافيتين صوتت للبقاء) يطالبان بعقد صفقات تجارية وسياسية منفصلة مع بروكسل.
هذه الإشكالية يطرحها أيضًا نواب الرفض الـ47 في حزب المعارضة الرسمية، العمال (له 228 مقعدًا برلمانيًا) بينما امتنع 10 عن التصويت. بعضهم ينتمي لتيار الزعيم الأسبق توني بلير، الذي يريد البقاء في الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، وكلهم تقريبًا يريدون التخلص من الزعيم الحالي ذي الشعبية الواسعة جيرمي كوربن. سحبوا الثقة منه وأجبروه على الاستقالة في الصيف الماضي، فأعادت القواعد الشعبية للحزب انتخابه بأغلبية أكبر من المرة الأولى في 2015.
كوربن، أصبح موضع سخرية الصحافة التي تتفق على أنه غير قادر على قيادة الحزب للفوز في الانتخابات، (استطلاعات الرأي يوم الجمعة منحت المحافظين 40 في المائة من الأصوات، والعمال 27 في المائة، بينما يثق 48 في المائة من الناخبين بزعامة تيريزا ماي، و16 في المائة فقط في كوربن).
كذبت الاستطلاعات وتنبؤات الخبراء في انتخابات 2015، واستفتاء الاتحاد الأوروبي، والانتخابات الرئاسية الأميركية.
كوربن وعى أن أغلبية الدوائر التي صوتت بالاستقلال في الاستفتاء الأوروبي كانت مناطق الطبقة العاملة. وبصرف النظر عما إذا كان يؤمن حقيقة بالديمقراطية كما يقول، فإن كوربن أمر بتوجيه الحزب كله بالتصويت على قرار تفعيل المادة 50 بعكس موقف أغلبية الطبقة العاملة. أي يجد نفسه في المسيرة نفسها على يمين حزب المحافظين، نحو الفصل الثاني من الثورة على الطريقة البريطانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى