كتَـــــاب الموقع

ثنائية الكرامة وحفتر

فرج عبدالسلام 

بما أنّ اليوم ليس بعيدا تماما عن الأمس… هذا مقالٌ نشرتُه في شهر سبتمبر 2014. بعد انقلاب الإسلام السياسي على العملية الديموقراطية، وبينما كانت قوات “عملية الكرامة” تخوض أشرس وأنبل معاركها لاجتثاث الإرهاب. مذّاك الحين تغيّرت كثيرٌ من المعطيات والمفاهيم على الأرض، ودخلت عوامل عديدة في الصراع الليبي الليبي المجنون… وروحُ المقال موجّهةٌ بالذات لمن يرفعون اليوم شعارات مدنيّة الدولة وعدم عسكرتها، وهم في رأيي، أوّلُ من أسّسوا لبنات العسكرة التي نشهدها الآن، بعد أن رأوا عن علمٍ أو جهالة أنّ المليشيات بديلٌ عن مؤسسة الجيش.. وهكذا رأيتُ أنّ التذكير قد يفيد، مع مراعاة الزمن الذي نُشر المقالُ فيه.
………………………….
لا أقصدُ بما سيلي من حديث تمجيد المؤسسة العسكرية ولا الحطّ من شأنها أيضا، وإنما أبيّنُ ما أراه من وقائع قد تكون غائبة عن البعض… أكتب هذا وصفتي كعسكري سابق تلازمني كظلي، وأنا الذي التحقتُ بالجيش يافعا أيام المملكة عندما كان جيشاً بحق، يشعر منتسبوه بالفخر، ويحترمون أنفسَهم، إلى جانب كونهم محط احترامٍ في المجتمع، ويؤمنون بشرف الجندية وقيمها النبيلة. مَهمته كانت الدفاع عن حدود الوطن، وتقديم يد العون في حال تعرضه لأي مخاطر خارجية أو داخلية.
بعد انقلاب سبتمبر المشؤوم وتحت ذريعةِ الخوف من الانقلاب على نظام القذافي، تعرضت مؤسسةُ القوات المسلحة إلى الإفساد والتدمير الممنهج، سواءً عن طريق توريطها في حروب خارجية عبثية دون إعدادٍ مسبق، أو توريطِ بعض منتسبيها ورموزِها في عمليات قمع ضد الليبيين، أو ترهيب منتسبيها من خلال سجنِ وقتلِ العديد منهم بحجة التآمر (سحل عبد السلام خشيبة القذافي، مثالا)، أو تخريبِ الركن الأساس الذي يستندُ إليه أيّ جيشٍ، وهو ما يُعرف بالضبط والربط العسكري. وبالتالي استُبدل معيارُ الكفاءةِ بالولاء لنظام الاستبداد، ودرجة القربى من القبيلة الحاكمة، فأدى ذلك كله إلى وجود مؤسسة عسكرية شكليّة في قوامها وأدائها، مهلهلةٍ لا تملك أي عقيدة عسكرية حقيقية، وينطبقُ على أغلب منتسبيها، والضباط منهم على الأخص صفة الأرزقيين (العيّاشين) الذين يتواجدون في أعمالهم كالدمى، وكل همهم الحصول على الراتب الشهري، كما انخرط الكثيرون منهم في أعمال ومشاريع تجارية وزراعية، وكل هذا كان يجري بِعلم النظام وتشجيعه.
لكن الشيء المؤكد أنه لمْ تُسجّل على منظومة الجيش ككل أنها شاركت السلطة المستبدة في أي أعمال قمعية ضد الشعب، مثلما حدث في دكتاتوريات أميركا اللاتينية أو بعض الدول العربية، وإنْ حدث بعض ذلك في ليبيا، فقد كان محدودا ومن قبل أشخاص معيّنين معروفين بارتباطهم بالنظام، وفي الأغلب كان النظام يعتمدُ في بقائه وقمعه (مجزرة أبوسليم مثلا) على كتائب أمنية معروفة لا تنطبق عليها معايير الجيش، ولا تتبع قيادته إداريا أو تنظيميا.
لم يكن غريبا إذاً أن تَنظمّ كل وحدات الجيش في المنطقة الشرقية إلى ثورة فبراير في الأيام الأولى، وأن يقود الضباطُ بمختلف رتبهم وفئاتهم مجموعات الثوار في الجبهات، كما جرى الأمر نفسه في بعض المناطق في الغرب والجنوب، وما كان الثوار ليحققوا شيئا دون هذا الدعم والقيادة والتوجيه من العسكريين المنشقين، بالإضافة إلى الناتو طبعا، والذي كان له الدورُ الحاسم. وتلك حقائق لا يمكن نكرانها. حتى في تناولنا لما قامت به بعض وحدات الجيش التابعة للقذافي ومجموعات أخرى من أعمال قمع وترهيب وقتل في مراحل مختلفة من الثورة، نرى أن أغلب تلك المواجهات مع الثوار والمدن جرت تحت ظروفٍ معقدةٍ متشابكة ،لا نعرف بالتأكيد تفاصيلها.
لكننا لا نستطيع بالمطلق النظر إلى كلّ مؤسسة الجيش التي كانت قائمة إبان الثورة على أنها فاسدةٌ ومعاديةٌ للشعب، وساهمت في حرب القذافي ضد الليبيين كما ورد مثلا في قراءة للدكتور الفاضل فتحي الفاضلي في مقال له بعنوان “الجيش الذي نريد”. وأقول هنا إنّ الأعمال الوحشية التي ارتُكبت أثناء الحرب، وذُكرت في مقال الدكتور الفاضلي، هي أعمال مشينة لا يرتضيها إنسان سوي، ومن حقنا جميعا أن نطالب بعدم جواز استمرارِ وجود من وقفوا مع المستبد ضد الشعب في مؤسسة الجيش الجديد الذي نرغب في بنائه، بل ونطالب بمحاكمة من مارس منهم أعمالا مشينة.
لكن لا يجبُ أن تغيب عن أذهاننا، ونحن نتطوّعُ بإصدار الأحكام الجزافية على الآخرين حقيقةٌ مفادها أن أغلب الليبيين في طرفي النزاع أثناء الثورة قد مارسوا أعمالا إجرامية وفظاعات يندى لها جبين الإنسانية، ولم تُعرف كل تفاصيلها بعد رغم أننا حجزنا من خلالها موقعا متقدما (مخجلا) في اليوتيوب، وستخرجُ حقيقتها للعلن يوما ما. بل أن هذه الفظاعات ما تزال ترتكب حتى يومنا هذا، وربما بشكل أكثر قسوة وإجراما من قبل من يدعون أنهم ثاروا على ظلم القذافي واستبداده، لنجد أن ما يحدث الآن أدهي وأمرّ مما كان، وأكثر وبالا. وهذه حقيقة لن ينكرها إلاّ مكابر، وسيؤدي هذا لا محالة إلى تقسيم الوطن وخلق عداوات ستزداد شدتها ووطأتها ولن تخف حدتها في المستقبل المنظور.
لكن ما علاقة هذا الأمر بعملية الكرامة أو حفتر؟ نعلمُ جميعا أنّ الأجسام الحاكمة في ليبيا منذ انتفاضة فبراير، من المجلس الانتقالي وصولا إلى حكومة زيدان قد فشلت في إعادة تكوين مؤسسة الجيش والشرطة في ليبيا الجديدة، لأسباب عديدة قد يُعزى بعضُها إلى السذاجة السياسية، وانعدام الحكمة لرؤية أهمية هذا الأمر، وأيضا هناك أسبابٌ أخرى مثل جُبن المسؤولين، ومداهنة من يُسمّون بالثوار (الذين تتزايد أعدادهم يوميا) واستمالتهم بالعطايا المادية، إلى أن سيطروا بالكامل على مفاصل الدولة وصاروا يُملون شروطهم ويعرقلون قيام الجيش، والمؤسسات الأمنية، ليقينهم أنها ستحرمهم ممّا يتمتعون به من مزايا ونفوذ. بدأت المأساةُ في المنطقة الشرقية من درنة التي تغلغل فيها الإسلاميون المتطرفون، ومنعوا قيام أي شكل من أشكال الدولة، بما فيها شرطة المرور وحرس الجمارك، إلى جانب اغتيال من طالته أيديهم من العسكريين الحاليين وحتى المتقاعدين منهم. وانتقل التطرفُ إلى بنغازي، ليبدأ باغتيال رئيس أركان الجيش ورفاقه، ثم انفرط عقدُ الاغتيالات لتطال كافة العسكريين من جيش وشرطة، تنفيذا لعقيدة واضحة تكفّر الدولة، وتصنفُ العسكريين بالطواغيت، وأضيفت إلى القائمة فئة الإعلاميين والناشطين السياسيين المنادين بقيام الدولة المدنية الديمقراطية.
تشيرُ أصابع الاتهام في كل هذه الأعمال الإجرامية إلى تنظيم أنصار الشريعة، وتنظيمات متطرفة أخرى استغلت حالة الفوضى السائدة. وتقريبا لم يُسجل على من يسمّون بالدروع التابعة “شكليا” لرئاسة الأركان، قيامهم بأعمال قتل مؤكدة غير ما حدث في جمعة إنقاذ بنغازي، وأحداث الكويفية التي حصدت العديد من الأرواح، بالإضافة إلى ما يتهمون به من خطف وإقامة سجون غير شرعية، إلى جانب التهمة الأهمّ، وهي عرقلةُ قيام مؤسسات الدولة، بما فيها الأمنية. الأمر الذي يتيح ُالفرصة للجماعات الإرهابية والإجرامية أن تعيث فسادا.
من هنا انطلقت فكرة “عملية الكرامة” التي كان مبدؤها إعادة هيبة الدولة، ووقف سيل الاغتيالات والقتل والإجرام، والتسريع بإقامة مؤسستي الشرطة والجيش. وشاءت الظروفُ التي مرت بها البلاد ألاّ يتواجد في الساحة من ضباط الجيش الذين يمتلكون الجرأة والكاريزما اللازمة لجمع العسكريين حوله ، والبدء في عملية التصدي للإرهاب، سوى اللواء المتقاعد حفتر.
انطلقت العمليةُ وسط تأييد شعبي في المنطقة الشرقية من اللذين سئموا وتأذّوا من حالة الانفلات الأمني، رغم أن بداية العملية لم تكن موفقة من حيث انعدام التجهيز بكافة أنواعه، وانعدام التنسيق مع مؤسسات الدولة، يضاف إليها تشتيت الجهود واستعداء ما يسمّى بالدروع، بدلا من التركيز على مصدر الإرهاب الرئيس والأكثر خطورة (التكفيريون والجهاديون ومن في حكمهم). لقد استغل المناهضون لهذه العملية وأغلبهم ينضوون تحت راية الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة وجود حفتر على رأسها لينالوا منها ومن شخصه، عبر استحضار تاريخ حفتر السابق ومشاركته في انقلاب سبتمبر، وسيرته غير الزاهية أثناء حرب تشاد. شكّكوا في نواياه فصارت الوحدات المكونة لعملية الكرامة جيش حفتر، وصارت العملية هي كرامة حفتر، وادّعى أعداؤه أنه إنما يقوم بهذا لاستعادة مجد فقده وإنه يقود انقلابا على الشرعية.
لأسباب عديدة لم تحقق عملية الكرامة أهدافها حتى الآن ويزداد المشهد إرباكا مع مرور الوقت، ورغم عدم شكي في النوايا الطيبة للجنرال حفتر عندما تصدى لمهمة شائكة عجز عن القيام بها الكثيرون لأسباب شتى، وحرّك بركةً راكدة ما كان لها أن تتحرك، فإنني، وبكل إخلاص لقضية الوطن، يجب الاعتراف الآن أن اللواء حفتر قد أصبح جزءا من المشكلة ولم يعد جزءا من الحل، وبالتالي من قبيل حِرصه الذي لا نشك فيه على مصلحة الوطن، نرى أن يتخلى عن قيادة عملية الكرامة ويضم القوات التابعة له إلى رئاسة الأركان، وينسحب بهدوء من المشهد، خاصة بعد صدور بيانه الإيجابي بالاعتراف بشرعية رئيس الأركان الجديد. فحفتر كعسكري محترفٍ هو أكثر الناس دراية بالضرر الذي يلحقه وجودُ قائدين يتنازعان الصلاحيات. أرى أن هذا الإجراء سيسحبُ البساط من تحت أقدام من يطلقون “فزّاعة” حفتر بمناسبة وبدونها، وقد يساهم في بدء حوارٍ للمّ شمل هذا الوطن المتشظي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى