مقالات مختارة

“توكة”

جميلة الميهوب

عمري أحد عشر عاماً. أذكر عمري لأن أختي آمال، التي تكبرني بسبع سنوات، دخلت الجامعة في تلك السنة.

في صباح اليوم التالي، بعد رجوع أبي وآمال من رحلة قصيرة إلى مدينة بنغازي لم تتجاوز ثلاثة أيام لتسجيلها في الجامعة، كانت أختي بانتظاري، كالعادة بعد الاستحمام، لتصفيف شعري الذي لا أستطيع تصفيفه بمفردي.

في غرفة المعيشة، على المندار المرتفع، جلست آمال. جلستُ تحتها على السجاد. كنا متحمستين جداً لتزيين ضفائري بـ “توكات” جديدة بدلاً من الشريط الأبيض.

وضعت آمال منشفة جافة على كتفي، وسحبت المنشفة الملفوفة على شعري. بدأتْ بتسريح شعري بيديها الناعمتين بحب وفرح. على جَريِ عادتها، قسمت آمال شعري الكثيف إلى نصفين. صففت النصف الأول منه. قسمته إلى ثلاث خصلات وجمعتها في ضفيرة واحدة. في نهاية الضفيرة شبكت شعري بـ “يستيك” أسود، يشبه لون شعري، ينتهي بكرتين من البلاستيك السميك والشفاف الذي يشبه الزجاج، تزينهما نجوم ذهبية وفضية.

في لمح البصر كنت قدّام المراية! أول مرة في حياتي تزين “توكة” ضفيرتي بدلاً من الـ “نسترو” الأبيض!.. رجعت إلى مكاني وأنا أطير من الفرح، لا أستطيع أن أنتظر إلى أن تضفر لي آمال ضفيرتي الثانية.

بدأت آمال في تصفيف الجزء التاني من شعري، وأنا نصف واقفة، لا أستطع الجلوس. وآمال، بهدوئها المعتاد وبفرح، تسرّح شعري.. حين ضفرت لي ضفيرتي الثانية، وكانت على وشك أن تضع الـ “توكة”، دخلت أمي. وقفت على رأسي، وباستغراب واستنكار أشارت بيدها إلى ”التوكة”:

– هذا شنو !؟

ردّت آمال بفرح:

– هدو “توكات”. جبتهم لجميلة هدية من بنغازي!

بغضب سألتها أمي:

– وين توكات نجمية؟

نجمية خالتي. الأخت الصغرى لأمي. هي في نفس عمري. لا أذكر أني في طفولتي انفردت يوماً بشيء دون أن يكون لها مثله. حتى أساوري، أقراطي وخواتمي الذهب التي كان أبي يهديني إياها بسخاء. كانت أمي تقسمها بيني وبين نجمية. فرضت أمي على الجميع معاملة نجمية كأخت توأم لي، وليس كخالة. حقيقة، قبل ذلك اليوم لم أكن أكترث لذلك أو أهتم به. ربما كنت طفلة، ولم أكن أعي ما يعنيه.

بخوف ردت آمال على أمي التي لم يستطع أحد غيري أن يقول في وجهها: لا، عندما كبرت وكان عمري أصغر بكثير من آمال في ذلك الوقت:

– يامّ، أني ما جبتش هدية لحد في العيلة إلا جميلة.

بغضب أكثر وبصوت أعلى:

– قتلك وين “توكات” نجمية؟

– ما جبتش لنجمية توكات.

– هاتي. هاتي واحدة من التوكات!

– بس، يامّ، لازم الاتنين يقعدوا لجميلة! جميلة شعرها كثيف، وواحدة ما تنفعهاش، مش حتستفيد منها!

– قتلك هاتي ”التوكة”!

بخوف وضعف أعطت آمال التوكة لأمي. بقيت ضفيرتي الثانية من غير “توكة”. بكيت بحرقة في حضن آمال ذلك اليوم. بحزن سحبت “التوكة” من شعري. وبحزن أكبر وضعت آمال الشريط الأبيض على ضفائري.

احتفظت بـ “التوكة” في يدي طول ذلك اليوم. ذهبت بها إلى سريري، وظلت في يدي إلى أن غفوت. احتفظت بتلك “التوكة”. أحببتها أكثر من كل أشيائي الثمينة التي قاسمتني إياها نجمية ولم أكترث بها يوما. احتفظت بتلك “التوكة” سنوات طويلة!

نهاية الأسبوع، كعادتنا، نذهب إلى بيت جدي لأمّي. يوم الجمعة بعد الظهر كنا نلعب قدام حوش جدي لعبة “النقيزة”، أنا وبنت خالي ابتسام وبنات الجيران. أطلّت نجمية من البيت فرحانة، و”توكة” بنجوم ذهبية وفضية تزين ضفيرة شعرها الناعم، المُسرّح إلى الخلف، لا يحتاج إلى ضفيرتين كشعري.

كل البنات التفتنَ إلى نجمية منبهرات بجمال “التوكة”: ”الله، الله ما حلاها التوكة! ماحلاها التوكة، من وين شريتيها من وين؟ الله، الله ما أحلاها التوكة، من وين شريتيها؟“.

كانت نجمية المدلّلة، وكعادتها، بكل غرور تلعب في “النقيزة” وتبالغ في القفز لتهز ضفيرتها المنسدلة على ظهرها، وهي تقول: ”هذه التوكة هدية من أختي زهرة. هذه هدية من أختي!“…

المصدر
صفحة الكاتبة على الفيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى