مقالات مختارة

تقنين حرية المعلومات

عادل درويش

مضى أكثر من ربع قرن على انتشار الإنترنت لتبشرنا بديمقراطية المعلومات، وحرية التعبير.

تليفون صغير يجعل معارف كان الأمر يتطلب ساعات قراءة في المكتبة البريطانية، في متناول يدك في دقائق.
وتتجاوز سهولة الحصول على المعلومات المعرفة الايبستومولجية إلى الأخبار الآنية.

الصحافة المؤسساتية كالـ«بي بي سي»، و«فرنسا 24»، و«النيويورك تايمز»، احتكرت تقليداً تقديم الوجبة للقراء والمشاهدين. البسطاء يتجاوزون هذا الاحتكار ليصلوا لمواقع «رويترز»، والـ«برس أسوسييشن»، والجديدة كـ«غوغل» و«ياهوو»، ليتابعوا ما حجبته «الغارديان» أو تجاهلته الـ«سي إن إن».

مئات من محركات البحث بجانب «غوغل»، و«بينغ»، و«غاليليو» توجهك إلى آلاف من مواقع ومدونات الصحافة المستقلة و«البودكاست» (الفيديو الإخباري المصور من أي مكان) ومنابر التعبير الحر بلا رقابة.

ثم ظهرت صحافة مستقلة تماماً عن أي من النماذج السابقة، صحافة لا تتبع القواعد التقليدية؛ البعض يسميها صحافة المواطن ليس لها أي ضوابط أو قيود تنقل كل الأحداث مثل المادة الخام قبل الصقل أو التعبئة والتغليف.

مقصودة أو مصادفة، مسيرة لمطالب أو احتجاجات، أو حادث مرور، أو سوء معاملة من مسؤول في مرفق تموله الضرائب، أو من رجل بوليس، تستطيع تصويب الموبايل نحوهم لتسجلها أو تنقلها مباشرة على عشرات من وسائل التواصل الاجتماعي ليراها الملايين حول العالم. وكثيراً ما تنقلها الصحافة المرئية المبثوثة حول العالم بينما لا تزال المؤسسة الصحافية التقليدية كالـ«بي بي سي» أو التلفزيون الرسمي التابع لوزارة الإعلام «يتحقق من صحة الخبر».

حتى نحن، كمجموعة صحافية برلمانية، لا يسمح لغيرنا بالوجود في البرلمان والتحاور مع الوزراء، فقدنا معظم احتكارنا لتفسير وتحليل ما يحدث في دهاليز السياسة للمشاهد والقارئ والمستمع. فباستثناء الحوار غير المعلن مع الوزراء ومصاحبة رئيسة الحكومة في الطائرة عند السفر والحوار غير الرسمي مع «داونينغ ستريت»، فإن جلسات مجلسي العموم واللوردات، واللجان البرلمانية في كل القاعات التي تتجاوز الثلاثين تنقلها الكاميرات مباشرة على موقع برلمان وستمنستر لمن يريد متابعتها ومشاهدتها وتفسير ما يحدث بنفسه بلا حاجة لانتظارنا، نحن «الخبراء»، بتاريخ عشرات السنين في الصحافة السياسية، نقدم له التحليل الإخباري في نهاية الجلسة.

تذكرت قول الصحافي والناشر الكبير اللورد نورثكليف (الفريد تشارلز هارمزورث 1885 – 1922) «الصحافة مهنة من يحاول أن يفسر للقراء ما عجز هو عن فهمه» ولو كان التلفزيون وجد وقتها لأضاف «والمشاهدين أيضاً»، لكنه أصدق من عرّف الخبر الصحافي بأنه «ما يريد البعض إخفاءه عن الآخرين، أما بقية المنشور فمجرد إعلانات».

التعريفان ينطبقان اليوم على الواقع المعاصر أكثر من أي وقت مضى منذ عرف الإنسان تبادل المعلومات.
ثلاثة تطورات هذا الأسبوع، بدت بريئة في ظاهرها لكنها تأكيد للمقولتين.

الاتحاد الأوروبي يفعل قوانين ما تسميه المفوضية بحقوق التأليف والنشر لتطبق على وسائل التواصل الاجتماعي، كـ«فيسبوك» التي لها «مستهلكون» أي متابعون من قراء ومشاهدين. في مقابل حماية حقوق الملحنين والمؤلفين تجمع الضرائب باعتبار أن الاستمتاع بفنونهم وأدبياتهم «دخل» ولا تفرق المعادلات اللوغارتيمية الصماء التي تدير «فيسبوك» بين مجرد تعليق أو كتاب باع مليون نسخة، مما قد يحبط من النشر خشية الضريبة.

يوم الجمعة أعلن «فيسبوك» إزالة صفحات تروج «للتفوقية البيضاء» أو العنصرية من نوعية ما نشر على صفحة القاتل المعتدي على المسجدين في نيوزيلندا.

قبلها بيومين أعلن وزير الصحة، ماثيو هانكوك، عن تقديمه مشروع قانون إلى مجلس العموم لإصدار تشريع يلزم وسائل التواصل الاجتماعي بمنع نشر أي تعليقات تشكك في سلامة التطعيم بالأمصال المتعددة، بسبب إحجام آلاف من الأسر عن تطعيم المواليد بحقنة من ثلاثة أمصال أمراض مختلفة في جرعة واحدة. وكانت تقارير نشرت عن مضاعفات للأمصال المختلطة، وأدى الإحجام عن التطعيم إلى ارتفاع نسبة العدوى بين الأطفال غير المطعمين. وتوفير المصاريف كان سبب مزج وزارة الصحة للأمصال.

هذه الإجراءات قد تبدو للبعض إيجابية، لكنها ستصبح سوابق لإجراءات تتبعها وتقود إلى منزلق السيطرة الشمولية التي تصورها جورج أورويل في روايته «1984» على وسائل التعبير والتواصل عندما تخفي المعلومات عن الناس فيما عدا الرواية الرسمية للنظام الحاكم.

فالسياسة الرسمية لوزارة الصحة هي التطعيم الثلاثي، بموازنة تفوق فوائده على أضراره، لكن ماذا لو أدمجوا خمسة أو ستة أو كل الأمصال المعروفة في حقنة تطعيم واحدة؟ وفي هذه الحالة تمنع وسائل التواصل الاجتماعي أي طبيب من نشر ملاحظاته عن أضرار لاحظها حتى لا يضغط الرأي العام على الوزارة لتغيير الأمصال.

وقد يصفق البعض، عقب رد الفعل العاطفي للحادث الإجرامي في نيوزيلندا لمنع نشر ما يصفه البعض بخطاب التفوقية العنصرية للبيض. لكن من هي الجهة صاحبة الكلمة النهائية فيما هو عنصري أو غير عنصري؟ ولا يوجد صحافي حقيقي يتحمل المسؤولية التاريخية لحمل البطاقة الصحافية (أو أي شخص ديمقراطي) يقبل أي رقابة على حرية التعبير مهما كان مبررها.
الخطورة أن المؤسسة الحاكمة عالمياً وجدت في شبكة المعلومات عبر الإنترنت وحرية حصول المواطن العادي على المعرفة بطريق مستقل، خطراً يهدد سلطاتها.

منذ ثلاثة أعوام حشدت مؤسسة الدولة والطبقة الحاكمة والمؤسسات الصحافية التقليدية كل إمكانياتها لتوجه الناخب الأميركي للتصويت لهيلاري كلينتون وشيطنت «مرشح الخوارج» دونالد ترمب؛ وفي بريطانيا قالوا للناخب لا بد من البقاء في الاتحاد الأوروبي.

الناخبون حصلوا على معلوماتهم وتبادلوها باستقلالية فضربوا بتعليمات المؤسسة عرض الحائط، صوت البريطانيون بالخروج، وانتخب الأميركيون ترمب.

فورها انتشر تعبير «الأخبار المزيفة»، واتهموا وسائل التواصل الاجتماعي بأنها دمية يحرك الروس خيوطها.
انقلاب اجتماعي غير مسبوق منذ الثورة الفرنسية التي قلبت الموازين وغيرت العالم وترتيبه الطبقي. ومثل انتفاضة «رعاع» باريس الذين غيرت ثورتهم مسار التاريخ في 1789، أفزعت ثورة «رعاع» بريطانيا وأميركا في صناديق الاقتراع المؤسسة الحاكمة في 2016.

وإذا كانت تكنولوجيا حرية الحصول على المعلومة وتبادلها وسيلة مكنت الأغلبية من التمرد على سيطرة الأقلية الحاكمة فلا بد من ضبط هذه التكنولوجيا قانونياً.

تغليف الغرض الميكيافيللي البعيد المدى بنوايا طيبة في المدى القصير حتى تبتلع الأغلبية الطعم وعندئذ يعود «الاستقرار» إلى الوضع السائد عندما يشك رجل الشارع في الأخبار المزيفة على وسائل التواصل المستقلة ويعود إلى تصديق الرواية الرسمية أو ما يسمح له بتصديقه كأخبار «حقيقية» لا «مزيفة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى