كتَـــــاب الموقع

تسوية “العهدة”

عمر أبو القاسم الككلي

استلمت “العهدة” وفق الإجراءات المعتادة. وقعت على نموذج التسليم والاستلام بصفتي رئيس المجموعة المختصة باستلام “العهد”، المتكونة، بالإضافة إليَّ، من السائق وفردين آخرين. ما هو مذكور في وثيقة التسليم والاستلام مجرد رقم مسلسل. كانت الإجراءات السارية أن نستلم “العهد” ليلا. في الشتاء عند منتصف الليل، وفي الصيف الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، لندرة الحركة في الفترتين. لا يعهد إلينا بأكثر من عهدة في المرة الواحدة.

التعليمات واضحة ومتكررة ومحفوظة، لكنها تتلى عليَّ، بصفتي، كل مرة:

ممنوع التحدث مع “العهدة”. ممنوع الاستجابة لطلبها في الطريق إذا طلبت التوقف لقضاء حاجة طبيعية. (تتاح لـ “لعهدة” فرصة دخول الحمام قبل أوان تسليمها بحوالي ثلث ساعة). الطلب الوحيد المستجاب هو طلب الماء. في هذه الحالة يلبى الطلب دون كلام. الكلام ليس ممنوعا مع “العهدة” فقط، بل ممنوع بيننا أيضا أثناء الذهاب بـ “العهدة”.

سيارتنا عادية، في مستوى السيارات الشائع. وعندما تكون هناك مهمة تبلغ دوريات الأجهزة الأمنية المختلفة العاملة على خط رحلتنا بمواصفاتها، بحيث لا يتم التعرض لنا.

نستلم “العهدة” وهي مرتدية ملابسها المدنية التي جاءت بها أول مرة. تؤخذ منها ملابسها المدنية وتعطى ملابس الجهاز. وقبل تسليمها لنا تعاد إليها ملابسها المدنية.

لسنا ندري في ماذا يفكرون ونحن ننقلهم آخر الليل نحو المجهول. هل يفكرون في آبائهم وأمهاتهم، أو حبيباتهم، أو زوجاتهم وأطفالهم. أم ينشغلوون فقط بمصيرهم. هل يتملكهم الندم على فعل ما. هل يتحسرون على فرص أضاعوها. هل يتمنون توديع شخص معين لآخر مرة…

مؤكد أنه لدينا فضول لسؤالهم عما قادهم إلى هذا الوضع، وبعض المعلومات عن حياتهم الخاصة. لكن لا أحد منا يجرؤ على تجاوز التعليمات وإشباع فضوله. فنحن نشي ببعضنا بسهولة. الواقع أن تعبير الوشاية هنا في غير محله. إذ الصحيح أننا نبلغ عن تجاوزات بعضنا. وهذا أمر مقبول ومعلن بيننا ولا حرج فيه. وغالبا يحدث بحضور الشخص المتجاوز، وليس في غيابه. ولا نلوم بعضنا على ذلك. فهذه وظيفتنا التي نعتاش منها. هذه نقطة مهمة. إذا لم أبلغ أنا فسيبلغ غيري، وعندها أحاسب على عدم بلاغي. لذا عادة ما يتم التبليغ بشكل جماعي.

تكون “العهد” التي نستلمها في حالة انهيار. فهي تدرك أنها منقولة إلى مكان أسوأ من الأول، أي إلى مصير أنكى. فتكون مليئة بالمخاوف ومستسلمة. وكوننا لا نعصب عينيها يجعلها، غالبا، تتوقع نهايتها.

هذه المرة “العهدة” مختلفة. كانت تعبة، صحيح. لكنها لم تكن منهارة. ولم تكن مستسلمة. الأقرب القول أنها كانت لا مبالية. في مرحلة ما من الطريق تكلمت:

– هل ممكن الحصول على آخر سيغارة؟. في العادة يوفرون للمحكومين بالإعدام بعض الرغبات. أنا أرغب في آخر سيغارة. مطلبي الوحيد.

كان يتكلم بهدوء ورصانة، وثقة من المآل أيضا. فكرت: تقديم سيغارة لا يعد تعديا على التعليمات. هو مثل تقديم الماء.

أخرجت لفافة من علبتي ووضعتها بين شفتيه. أشعلت اللفافة بالولاعة. كانت الإجراءات المتبعة تصفيد يدي “العهدة” بيدي الشخصين الجالس بينهما. طلبت من الشخص الجالس على يمين “العهدة” أن يسهل له عملية التدخين.

– شكرا.

في نبرته اعتراف واضح بالفضل. دخن لفافته بقدر الراحة المتاحة.

المكان الذي نقصده متطرف. يقع على قفر مترام. المدخل إليه عليه علامة ممنوع الدخول. نحن ندخل. البوابة الفعلية تقع على بعد حوالي كيلومترين من المدخل الرئيسي. التعليمات أن نجد البوابة مفتوحة، لأن المعلومة تكون قد سبقتنا. لا نرى الحراس ولا يروننا. ذلك ممنوع. التعليمات واضحة: إذا اكتشفنا أن أحد حراس المعسكر يتطلع إلينا نطلق عليه الرصاص. المسألة ليست لعبا. لا يوجد لعب في عملنا، القتل عندنا بسلاسة وسهولة شرب الماء. المهم أن يكون طبق التعليمات. لا نقتل خارج التعليمات. لذا لا نعرف تأنيب الضمير. ضميرنا مهني وليس أخلاقيا، وهو أن نتقن عملنا على النحو المرغوب. الضمير الأخلاقي خارج العمل.

نتوغل في المعسكر. نجد الحفرة جاهزة.

أنزلنا “العهدة” من السيارة. فككنا الأصفاد. قال له أحد مرؤوسيَّ:

– شهِّد على روحك.
قال “العهدة”:
– هذا ليس من اختصاصك. أنت اختصاصك القتل وليس تحديد إلى أين سأذهب بعد موتي.

اغتاظ مرؤوسي وحاول أن يضربه. لكنني منعته. قلت له:
– دعنا نكمل مهمتنا.

رصاصة في مؤخر الرأس، تنهي الأمر. هكذا تقتضي التعليمات. ثم طلبت الصلاة عليه حسب التقليد الذي درجنا عليه. رفض مرؤوسي متعللا بأن “العهدة” كافر. فأجبته بأنه لم يعلن كفره. هو فقط “دفع بعدم الاختصاص”. وليس من شأننا الإفتاء.

كانت التعليمات أن نترك الجثة قرب الحفرة، وبعد مغادرتنا يأتي حراس المعسكر ليدفنوها. تسوى الأرض ولا تترك علامة واضحة، كأنه لاوجود للقبور. يبدو أن حراس المعسكر يضعون علامات لا ينتبه إليها ويميزها غيرهم. لعل لديهم خرائط على نمط خرائط حقول الألغام.

*

عند العودة كتبت تقريري:

“… تمت تسوية العهدة رقم (…) بتاريخ (…) على تمام الساعة (…) حسب الإجراءت المتبعة. هذا للعلم. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام”.

حرر في (…)

رتبتي واسمي، ممهورين بتوقيعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى