اهم الاخبارمقالات مختارة

تحصيل الحاصل؟.. الأزمة الليبية بميزان العقل

د. محمد محمد المـفتي

ربـما سـتـكون معركـة القـربـوللي آخـر معارك الحرب الأهلية الليبية الحالية. فها هي قـد أوصلتـنـا إلى صـمت الانتظــار! فعادة ما نصمت نتيجة الحيرة في انتـظــار ما هـو قـادم. وهـا هي الأطراف السياسية الليـبــية المـعـنـية تتـلـهى بتصريحات لا تضيف جـديدا ، بل قـادة الدول المحيطـة، الأوروبية والعربية، في لقاءاتـهم التي لا تتـوقـف، ليس لديهم سـوي تـكــرار عـبــارة ” لا حل للأزمة الليبية سـوى الحل السياسي”.

فما الذي يحدث حقــــــًـا ؟       

يبدو أن الكل في انتظـار صياغة إدارة الرئـيـس تــرامـب، لرؤيـتـها. وإن صدقت التخمينات سـيقود الموقف الأميركي القادم، إلى دمج الكيانات الرسمية الليبية واخـتفــاء الوجـوه والأسـماء المتصـدرة للمشهد لدينا، والبــدء في دمـج الكيانات المـسلحة مع أو تحت إمرة الجيش كمدخل لتطهير البلاد من السلاح العشوائي.

وفي ضوء هذا التوقـع، يبدو أن المعضلة التي تواجـه الجميع هي أن عليهم تناسي ثـاراتـهـم والجلوس حول طاولة واحـدة وتـقـديم تنازلات متبادلة.

ولنعترف، بأن النخبة السياسية لدينا بآدائــها المتـدني الذي تعكسه معاناة الناس، ليسوا في نظر البليونير ترامب سـوى حـفـنــة من الساسة الصغار في ولاية أميركية مغمورة، متنافسين حول المصالح والعقود والمناصب. وقد يوفـر السيد ترمب بعباراته وحركاته غير المتوقـعـة، شتى الطرائف اليومية لوسائط الإعـلام. لكن الإدارة التي تقف من ورائه ، تعـرف ما تريد ولديها القوة لتفرض ما تراه. أليس هذا ما حدث إثر زيارته للسعودية؟ إذن الدور الأميركي ليس محط اختيار، بل محصلة لحقائق جغرافية وسياسية. ثم إن العالم تجــاوز الحقبة الاستعمارية، ونحن وكل العالم نعيش عصر السيطرة المعلوماتية، وهي ما تمنح الولايات المتحـدة مكانتها.

بالمقابل نحن الليبـيون، بحاجة لتناول موضوعي لما نعيشـه من تخبط وفوضى ودمــار، وفقدان الاتجاه … تـنـاول يستوعب كل هذه التغيرات على الأرض، السلبي منها والإيجابي … من الشريحة المتصدرة للسلطة بحكوماتـهـا ومجالسها وعلى اختلاف دعاواها، إلى شبكات تهريب قـوت الليبــيين ونفطـهـم، إلى المحترزين على 26 مليار من النقد في خزائنهم اللمنزلية، وكل هذه الجماعات التي بالطبع تحتمي بتشكيلات مسلحة تمارس العنف والابـتــزاز والترويع والتخريب.

الســيـطـرة على الســلاح

تلك باختصار ملامح المشهد الليبي البارزة وليس من مخرج من هذا الوضع المأساوي، إلا باحتـواء وباء السلاح، المنتشر في كل زقاق وشارع. فمن يا ترى يمكن أن يقوم بهذا الدور، إلا سلطة تردع، وتعيد لإدارات الدولة هيبتـهـا، وللمواطن أمـنـه.

المطلب بسيط وواضح، لكن المعضلة الحقيقية هي كيف، وما هي الآليات لتحقيق ذلك؟

وفي ضوء الأحداث الأخيرة، يبدو لي الآن أن هناك من فكر في حل لمشكلة السلاح بتـدميره بالحرب. ربما تولدت الفكرة بإيحــاء من قوى خارجية كما يرى البعض، ولكنه عندي نتاج تلقائي كما هو الحال في كثير من الأزمات، وهذا هـو معني المـقــطـع الشعـري “اشتدي يا أزمة ، تنـفـرجي” ، فالناس العاديون ينـشــدون الاستقرار، ولا يمكن لأي مجتمع أن يعيش أو يتقدم دون استقرار. وهكذا فقد السلاح والمسلحون تدريجيا مبرر وجودهم، ووهج الاعجاب الذي رافقهم في الشهور الأولى بعد ثورة فبراير. ومن هنا كانت معارك بنغازي وسرت والجفرة وفـزان.. وأخيرا القربوللي، التي ربما أقنعت البعض أنه لا جدوى من امتلاك السلاح وتحريك الأرتال.

الجـيـــــش

قديما كانت الكتائب المقاتلة تجند على أساس الولاء لزعيم، وتستمد أنصارها على أساس الجهة أو القبيلة أو المذهب، ولأداء مهمة محددة. وحديثا مع قيام الدولة العصرية أو القومية القائمة على التجارة والصناعة، ظهرت فكرة الجيش الوطني المكون من مجندين يتلقون مرتبات ويحاربون باسم الدولة. وفي المجتمعات التقليدية تأسست دول وطنية بعد نيلها الاستقلال على نفس النمط، وتبنت مبدأ اقتصار ملكية السلاح واستعماله على الدولة. لكن انهيار السلطة لأي سبب كما حدث في ليبيا بعد فبراير 2011، صاحبه تراجع إلى أنماط تقليدية، فكانت المليشيات الأقرب إلى نموذج القبيلة القديمة. لكن الميليشيات لا تتسق مع الدولة الحديثة ذات التكوين المركب من إدارات وقضاء وأمن (شرطة) وقطاعات خدمية ( تعليم، صحة، كهرباء، مياه، حرس بلدي .. إلخ). ولهذا يبقى الجيش والشرطة من أساسيات الدولة الحديثة، لحماية الحدود، وتمكين المؤسسات (برلمان ومجالس تشريعية ومحافظات وغيرها)، وتحقيق الأمن اليومي للمواطن، وبدون الجيش والشرطة تعم الفوضى وتستحيل الحياة الطبيعية في أي مجتمع.

لا أحد يريد الدكـتاتورية ؟

ليس ثمة حلول مثلى لتنظيم المجتمع. والجيش والشرطة، بحكم امتلاكهم لقوة السلاح، يمكن أن يسيؤا استغلال صلاحياتهم، ويشهد تاريخ الانقلابات في منطقتنا العربية على هذه الحقيقة. وهذا ما يثير على الفــور مخاوف كثير من الساسة والمثقفين.

ومن حقنا أن نتساءل هنا، ما تعريف الدكتاتور؟

إنـه إنسان في موقع سلطوي، يتخذ قرارات تؤثر في الآخرين، وفي الغالب تحيل حياتهم إلى جحيم، لأن المصطلح ينطوي على دلالات سلبية. والأهم أن الدكتاتور يمتلك قوة أو دعما يمكنه من قمع خصومه. وعادة ما تبدو أفكاره وقراراته غامضة المصدر.

ميزة هذا التعريف البسيط والأساسي ، أنه قابل للتطبيق على كثيرين، من آمر التشكيل المسلح أو المليشيا في حي بمدينة أو في قرية أو واحـة، إلى مهربي طالبي الهجرة غير الشرعية مشرف، إلى مدير مصرف أو ناظر مدرسة أو مركز توزيع غاز الطهي، أو محطة بنزين قرب أم الأرانب بالجنوب حيث يباع لتر البنزين بدينار ونصف.

وفي قائمتي مثلا، أول هؤلاء الدكتاتوريين هـو السيد الصديق الكبير محافظ المصرف المركزي. فبحكم مسؤليته عن النقد، تسببت سياساته أو عدمها، فقد وصفه أحد المطلعين بأنه أقرب إلى المتفرج السلبي، تسببت في ما يعانيه 6 مليون ليبي نتيجة نقص السيولة وتضخم الأسعار .. إلخ. ولا نعرف من يحميه حقا، فالرجل رغم قرارات مجلس النواب وانتهاء مدته، لم يغادر كرسيه، ولا أحد يبدو قادرا على زحزحته من كرسيه. وأخيرا لا نعرف حقا مصدر سياساته ولا الغرض منها. التخمينات كثيرة ، من ذلك أنه يستمد سياساته من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، وأن كيانات سياسية داخلية ودولا إقليمية ودولا كبرى هي من تقف وراء قـراراته.

 

لست هنا في معرض انتقاد محافظ المصرف المركزي الحالي، في شخصه، فأنا لم أقابل الرجل مطلقا ولا أعرف طبيعة الرجل وقناعاته وصلاته. وإنما ذكرته فقـط كنموذج يجسد التعريف الأساسي للدكتاتور. لكن المقصود بالدكتاتورية عادة هـو شكلها السياسي.

هناك إخوتنا خاصة في طرابلس ومصراته ، يحذروننا في كل اجتماع وخطاب ومقال أو إدراج على الفيس بوك، من عودة العسكرية. نعم المسافة بين الدكتاتورية والعسكرية ضئيلة خاصة في تاريخ الوطن العربي وسابقا أمريكا اللاتينية. فمن سمات العسكرية الرتبية أي طاعة كل فرد لمن هـو أعلى رتبة، والتنفيذ دون نقاش. ومن حق البعض أن يتخوفوا مما هـو قادم، لكنهم يغفلون أن ما يحدث في ليبيا يدخل ضمن اهتمامات الدول الكبري، وأن عالم اليوم يخضع لرقابة الأقمار الصناعية، والانترنت، وأن المجتمع الدولي لا يتردد في التدخل. ولا ننسى أن ثورة فبراير وإن دشنت فوضى كارثية، إلا أنها خلقت جوا من حرية إبداء الرأي والحوار، مهما شـاب ذلك من تجاسر وتحامل وسوء توظيف اللغة.

مصراتة

مبكرا وبعد فبراير 2011 ظهرت في مدننا ومنها مصراته زعامات وأجنحـة مسلحة منظمة طامحة للسيطرة على مسار الأمور في الدولة الليبية. وهكذا تم تجميع ونقل كميات ضخمة من ترسانة نظام القذافي إلى مصراته. ومع مرور الوقت تحولت الأحلام إلى مواجـهـات دامية، فكانت معارك الهيمنة على العاصمة طرابلس، من غرغور إلى المطار. بل ومحاولة السيطرة على بنغازي من خلال تأجيج الصراع هناك، عبر أسطول الجرافات السيئة الذكر.

ومع مرور الوقت، طرحت إحصائيات الموتى والجرحى، وردود فعل الشارع تساؤلات عن جـدوى ما ذلك التوجـه العسكري. وبالطبع قادت تلك التطورات إلى ارتفاع صوت الاعتدال، صوت مصراته المتاجـرة التي كانت طيلة القرنين الماضيين عامل توحيد للوجدان والوطن الليبي. وقد سبق أن نشرت قبل قرابة عشر سنوات، مقالا مطولا، بعنـوان ” مصراتـه مســداة النسيج الليبي” ، طرحت فيه فرضية مؤداهـا أن تجار مصراته، بحكم انتشارهم في كل واحة وقرية ومدينة ليبية، خلقوا شبكة سـاهمت في توحيد المجتمع الليبي دون حراك سياسي، ودون قصد. ولا شـك أن مصراته تستحق الاعتراف بمكانتها كثالث مدينة كبرى وكمركز اقتصادي تجاري هـام الآن ومستقبلا، لكن ذلك لا يعني منحـهـا حـق امتلاك السلاح، ومن ثم التصرف كـ “دولة – مدينة”.

عملية الكرامة

المشير خليفة حـفـتر، الذي لا أذكر أنني التقيته إطــلاقا، نجـح في كسب ثقة قـدامى رجال القوات المسلحة من جميع أنحاء ليبيا، واستطاع أن يعيد بناء مؤسـسة عسكرية فـعـالة تحمل له الولاء وتـنــفــذ أوامره، ويخضعون لمنظومة قيم وإنتماء رقمي. هذه حـقـائق، بغض النظر عن رأيك في الرجل أو طموحـاته الشخصية.

وجاءت مبادرة الكرامة كاستجابة لحالة الفوضى والاغتيالات والتفجيرات، بغض النظر عن حـقـيـقـة من دبر تلك الفوضى ودوافعـهـم وأجـنـداتـهم، لكن الشارع، خاصة في بنـغـازي، حمّـلـها للتنظيمات الإسلامية. ولاشك أن حملة دعائية غـذت ذلك الانطباع. بيد أن التشكيلات الإسلامية نفسها سـاهمت ببيانــاتها وفيديوهاتـها المروعـة، في تـعـزيز قـناعة الشارع ضـدهـا. وهكذا أصيبت بنـغـازي بالشلل، وبلغ الاحتقان مبلغـه. وأذكر ما قاله لي صديق في تلك الفترة:” كانت الحياة تتـوقف مع المـغـرب، وكان الخـوف يستولي علينا مع ظلام الليل وصمـتـه المـطــبق. فلو تعرضت لأي مـكــروه ، أو حتى سطو مسلح فلن تجد من يعينك أو يســعـفـك”. أمام مثل هذه الذكريات تـتـراجـع حـجـج المـعارضين لحملة الكرامـة.

وطـبـعـا لا يمكن إنكــار أن الحرب في بنغازي أو سـرت، كأي حـمـلــة عســكرية لا يمكن أن تخلو من سلبيات أبسطها معدلات الوفيات والإصابات (التي ستحتاج إلى سنين لإعادة تأهيل أصحابها) والدمار المادي وهو في الواقع تدمير لمدخرات الليبيين لعقود والتي هي جزء من ثروة البلاد. وهناك التجاوزات والتي لا تخلو منها أي حرب. وسـتبقى مبررات الحرب وجدواها لدى الجانبين محور جدل، ولقرون كاملة.

تـيــار الإســلام المـقـاتـل

على الضفة الأخرى من الصراعات تكتلت جماعات مسلحة تنتمي للإسـلام السياسي .وهـنـا سـتبقى ظـاهـرة الإســلاميين النازعـيـن لحمل السـلاح، معنا لسنين. وسيحـاول المـؤرخـون الإجـابـة عن أسئلة كثيرة بشأنـهـا. من ذلك كيف تحول ثوار فبراير إلى امتداد لتنظيم الدولة أو “داعش”؟ ولماذا استعجلت المجموعات المسلحة في رفع شـعاراتها، دون تقدير لردود فعل المجتمع، فـفـقـدت رصيدها من التعاطف الشعبي الذي اكتسبته منذ التسعينيات إلى 2011 ؟ وما المسئول عن ذلك؟ هل هي أخطاءهم، أم هي حملة معادية لتشويهـهـم؟ ولماذا اندفع هـؤلاء الشباب إلى القتال دون برنامج سياسي ؟ ولماذا تـعـددت انقساماتـهـم وزعاماتهم؟ وألا يكون إحياء الدين بمواكبـة روح العصر؟

ومـع ذلك ؟

فإن التسويات والقرارات القادمـة، يجب أن تـِشـارك فيها جميع الأطراف، ولا يجب أن تكون مجرد بيانات مشتركة على ورق، بل مسـتمدة من واقع الحال على الأرض وتوازن القوى، وأن يتم اختيارها على أساس فعاليتها في تحقيق سـلام اجتماعي واسـتـقـرار مـســتدام. المقترحات سـهلة، ولكن أي مقترح بدون آلية تحـوله إلى واقـع، ليس إلا محـظ خيال، وهذا ما أكـدته تجربة السنين الماضية. وفوق كل ذلك يجب أن تكـون القـرارت جـادة تـعـيد لنـا كرامـتنـا أمام أنفسنا وأمام الأجـيـال القادمـة، وأمـام المـجـتـمـع الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى