كتَـــــاب الموقع

“بين ثقلِ الوجودِ وخفّة القصيدة”

المهدي التمامي

على الشاعر أن يكون في خفّة الطيْر..

هذه أهم وصايا الشاعر بول فاليري صاحب “المقبرة البحرية”، الذي يرى أن الوحي يأتي بالبيت الأول للقصيدة، وما على الشاعر إلا أن يصنع البقية… أما في خفة الكائن التي لا تحتمل، فيؤكد ميلان كونديرا على ثقل العيش الذي لا يمكن مقاومته.. إلا عن طريق اليقظة الدائمة للذكاء والاستعداد النفسي للسمو فوق واقع ثقيل، من خلال العودة إليه، شعريًا، كما يقول بول ريكور، عبر الجزء الضائع جراء لحظة الذات في مواجهة الأنا، فهنا تفقد الذات شطراً منها، فتحاول استعادته عبر القصيدة كحل ممكن للفصل بين الذاتية والمطابقة..

وهذا يقودنا إلى قضية جوهرية في مسألة الإبداع، تتلخّص في اللحظة الحاسمة للإبداع “اللحظة الحتمية”.. كيف يصل المبدع إلى نقطة التوازن أو “النقطة العليا” عند السوريالية.. كيف يمكنه أن يُحيل ثقل الوجود وضبابيته إلى خفة تسعفه في التعامل مع اللحظة الهاربة، اللحظة الهائلة التي تنعكس فيها التماعة الخيال القصوى..

إذن يظلّ التحرّر من الثقل الذي تفرضه سيرورة الأحداث الحالية وطاقتها القاسية والسعي الدائب لإزاحته عن طريق الإبداع هو الأساس الأول لتمهيد الدرب المهيب الذي سوف ينطلق منه المبدع الأبقى. فكثيرًا ما شكّل هذا الثقل إضافة إلى نسبية التفوق عند المبدع وعتمة الوجود ولا شفافيته.. عقبة أمام الانطلاق الحر للمبدع..

أما في حقيقة الأمر؛ فليس بمقدور المبدع رفض الواقع، لكنه قادر على الإفلات من النظرة المباشرة للواقع الذي يمثل “الثقل” المشار إليه سابقًا.. حيث يسعى المبدع لأن تحل فيه روح بيرسيوس بنعاله المجنحة وهو يقطع رأس ميدوزا، ويخفيه، كما أخفى الشاعر الواقع عبر النظر إليه بعين الخيال، إذ لم يكن بيرسيوس لينظر إلى الوجه المرعب لميدوزا مباشرة، بل نظر لانعكاس ذلك الوجه على درعه البرونزي، مستعينًا بالرياح والغيوم لكي يمتلك السرعة والانقضاض الفجائي…

يُعيد الشاعر الحياة إلى الوجود الحجري، يحرره من عيني ميدوزا، عبر منطوقات استعارية تهدف إلى إعادة تصوير الواقع بالمعنى المزدوج لاكتشاف أبعاد مطموسة من التجربة الإنسانية ولتغيير نظرتنا إلى العالم، وفي ذات السياق “الريكوري” تصير القصيدة إعادة وصف للواقع وإعادة تنظيم لوجودنا توجهها القراءة، ليصبح الشاعر هو القارئ ذاته، وقد دعاه النص إلى أن يصير قارئ ذاته، مُتخفّفًا مع “نيتشة” من ثقل الحشد المجتر، مُحيلاً كل شيء لصالحه، لتصبح القصيدة دخولاً إرادياً إلى عالم الأشياء الأعلى والأرقى، أو كآلة يستخرج منها الشاعر ألحانًا جديدة كلما لاطفتها يده؛ بل حتى الآلة نفسها قد يسحرها صوتها المُتردّد من خلال حركة أنامل الشاعر، كما تتفتح في طين المعنى وردةُ الإغراء القديم، في صيغة “بجماليونية” تُعطي الأبدية لسطوة المجاز..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى