مقالات مختارة

«بينيلوب» لغابريال فوريه: تمجيد لوفاء تلك المرأة الاستثنائية

ابراهيم العريس

لسبب ما، قد يذكّر عنوان هذه الأوبرا بعنوان كتاب صدر قبل عقود في فرنسا عنوانه «تبّاً… لقد نسينا السيدة فرويد مرة أخرى!». والمعنى هنا واضح، فالمؤلفون، لكثرة ما كتبوا عن رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد، تركوا زوجته السيدة فرويد جانبا ونادرا ما تذكروها. وهنا يكمن وجه الشبه إلى حد ما بين العنوانين. فأن يقدم مؤلف أوبرالي، بعد عشرات بل مئات الأعمال الفنية والأدبية التي وُضعت طوال عصور عن يوليسيس، على وضع عمل عن زوجته بينيلوب يحمل اسمها ويكون فيه البطل شخصية تالية لها في الأهمية، لا يمكن اعتباره سوى نوع من انصاف متأخر على قاعدة مبدأ: تبا كنا قد نسينا السيدة يوليسيس! لكن حقيقة الأمر أن هذا النوع من الانصاف…. المتأخر بدوره، ما كان من شأنه أن يكون لولا أن صاحبة الفكرة الأساسية في خلق هذا العمل الأوبرالي، كانت بالتحديد امرأة. فالحكاية أن مغنية السوبرانو الكبيرة التي كانت اعتادت العمل مع فاغنر، لوسيين بريفال التقت عام 1907 في مونت كارلو الموسيقي غابريال فوريه الذي كان يعيش ذروة نجاحه وكانت من المعجبين بموسيقاه، ولا سيما بتلك المقطوعة التي لا تزال الى اليوم تعتبر من أجمل أعماله «بافان». وهي إذ أبدت أمامه دهشتها من كونه لا يدنو من التلحين الأوبرالي، على رغم ما في موسيقاه من أبعاد مسرحية وسيكولوجية، سألته لو كان في إمكانه أن يكتب لها عملاً تؤديه وتكون البطولة لها فيه بالطبع.

> يومها، حتى وإن كانت الفكرة قد «أرعبت» فوريه، لم يتمكن من الاختباء وراء انشغالاته المسبقة وعمله التعليمي والإداري لكي يتهرب، كل ما في الأمر أنه بعدما توافق في البداية مع لوسيين بريفال والشاعر رينيه فوشوا عن أن يكون العمل أوبرا في خمسة فصول تتحلق من حول شخصية بينيلوب زوجة يوليسيس ووفائها لزوجها رغم غيابه عشرين عاما من «مملكته» في إيتاكا، كان كل ما استطاعه فوريه في محاولته التملص هو خفض عدد الفصول من خمسة الى ثلاثة. وعلى هذا النحو، وُلدت هذه الأوبرا التي شاءت منها المغنية الكبيرة استعادة مجدها وترجيح كفة المرأة على الرجل، فيما أراد منها فوريه في نهاية الأمر ان تضاهي ما لا يقل عن عملين أوبراليين معاصرين له، أحدهما لديبوسي والثاني لدوكاس (على التوالي: «بيّاس وميليساند» و»آريان وذو اللحية الزرقاء») وبهذا وجد في الموسيقى الفرنسية بدايات القرن العشرين ذلك الثلاثي الباهر الذي شكلته هذه الأعمال معاً.

> مهما يكن من أمر، فإن هذه الأوبرا التي سوف تلقى منذ عرضها العالمي الأول في مونت كارلو بعد شهور قليلة من ولادة الفكرة، نجاحاً كبيراً وولادة لفوريه ككاتب موسيقى مسرحية حقيقية، هذه الأوبرا دخلت الريبرتوار العالمي مدخلة اليه في الوقت نفسه شخصية بينيلوب في شكل يجعلها أهم من أن تكون مجرد زوجة ليوليسيس تنتظره لا أكثر ولا أقل. والحال أن فوريه حرص على توضيح هذا الأمر موسيقياً، ليس فقط في مسرى العمل من خلال حوارات أو مشاهد تُعطى فيها بينيلوب مكانة مركزية، ولكن أيضاً من خلال التركيز منذ المقدمة على ما تتسم به من وفاء يكاد يضاهي قوة زوجها وجبروته. وهو ما سوف يستعيده الموسيقي في الخاتمة التي، إذ استعادت الأبعاد الموسيقية ذاتها، التي وسمت المقدمة موسّعة من دلالاتها، وبخاصة في ما يتعلق بوفاء بينيلوب وابتداعها الحيل المتلاحقة كي تصد عنها خاطبي ودها وطالبي يدها المحاولين إقناعها في كل لحظة وثانية بأن يوليسيس قد انتهى ولا جدوى من انتظاره، قدمت واحدة من أجمل الخواتم في الموسيقى الفرنسية.

> والحقيقة أن قوة هذه الأوبرا تكمن هنا. ففي مقابل الأعمال الكثيرة التي تشتغل إبداعاً على فكرة رجوع يوليسيس إلى إيتاكا واستعادته زوجته، ها نحن هنا أمام عمل همه ان ينظر الى الموضوع من وجهة نظر الزوجة نفسها. ومن هنا نجد الأوبرا ذات الفصول الثلاثة، تُفتتح في الفصل الأول على بينيلوب وقد مضى عشرون عاما على انتظارها من دون أن تتعب من الإنتظار. كل ما في الأمر أنها تجد نفسها محاصرة بطالبي يدها من الذين يرون أنه لم يعد جائزاً أن تواصل تلك الحياة. وهي تجد في نهاية الأمر أنه لم يعد في مقدورها أن تقاوم اكثر، ولو طَرْح الموضوع وهكذا تسبغ الوعود تلو الوعود متحججة بعائق من هنا أو مهلة مطلوبة من هناك. وفي تلك الأثناء يكون يوليسيس قد وصل الى تخوم المملكة خفية متنكرا بأسمال متسول مكتهل. وهنا في المكان الذي يقيم فيه في انتظار خطواته التالية لا يتعرف إليه سوى الراعي الذي كان يعرفه منذ زمن. لكنه يطلب إليه الصمت في انتظار التطورات اللاحقة. والحقيقة أن فوريه الذي شاء أن يعتبر هذا الفصل كله نوعا من التقديم النبيل لشخصياته الأساسية ولا سيما بينيلوب نفسها ثم يوليسيس، قدم موسيقى تبدو لنا غاية في البساطة حتى ولو استخدم لأجلها مجموعة ضخمة من الآلات التي لا تتاح عادة الا للإداءات السيمفونية الكبيرة. بيد أنه استخدمها هنا وكأنه يريد تقديم صورة وديعة نبيلة لنفسيات تريد أن تلتقي وتعرف أن اللقاء محتم، لكنها تنتظر لحظة مناسبة. وهنا، إلى تشويقيتها، أتت الموسيقى حاملة مقداراً كبيراً من السمو، ولا سيما حين مهدت مرة لظهور بينيلوب ثم، مرة ثانية لظهور يوليسيس.

> وأتى هذا تمهيداً للفصل الثاني من الأوبرا، ويدور ليلاً حيث كما في كل ليلة تعتلي بينيلوب التل المشرف على المدينة منتظرة كدأبها منذ عشرين عاما عودة زوجها، غير دارية هنا أنه قد عاد حقاً، ويحتفظ لها بالمفاجأة التي لن تُكشف إلا لاحقاً. ومع هذا إذ هي تدنو من الراعي تحدثه كما اعتادت أن تفعل، لا تفوتها ملاحظة وجود المتسول الكهل الذي يتعرف هو إليها، من دون أن يبدي أية إشارة تنم عن هويته الحقيقية. بل إنه، إذ يستمع إلى حكايتها ويدرك مقدار تبرمها بأولئك الذبن يطلبون يدها، ينصحها بأن تقيم بينهم في اليوم التالي مباراة من يفوز فيها يكون الفائز بيدها. وإذ تتردد في قبول الفكرة يخبرها انه هو نفسه ملك من جزيرة كريت هارب من مملكته وقد سبق له ان شاهد يوليسيس حيا ويعرف أنه سوف يعود مؤكداً أن لا أحد من طالبي يد الملكة سوف يفوز في المباراة، لأن موضوعها هو سيف يوليسيس وقوته «فهل تعتقدين ان ثمة من بين هؤلاء الحمقى من له قوة ملك إيثاكا الشرعي الغائب/العائد، ويمكنه استخدام سيفه؟». كل ما في الأمر، يقول «المتسول العجوز»، إن هذه الحيلة سوف توصلهم إلى الفشل وتكشف ضعفهم. فتبارح بينيلوب المكان وقد استعادت مقداراً من أملها، وصمّمت على أن تقيم المباراة لعل ذلك يردع المتطفلين ريثما تؤذن الأقدار بعودة الزوج المحبوب. وبعد مبارحة بينيلوب يكشف يوليسيس عن هويته أمام الرعاة المتجمعين، فلا يتوقفون عن التهليل له وقد صمموا على أن يقفوا غداً إلى جانبه في كل ما يفعل.

> في الفصل الثالث والأخير، يوصلنا فوريه بموسيقاه الدينامية التعبيرية والمتصاعدة، إلى خاتمة الحكاية، مستخدماً هذه المرة كل إمكانيات الأوركسترا الكبيرة وصولاً إلى أكثر من «كريشندو» واحد. فمحور الفصل هنا هو المباراة ذاتها ثم كشف يوليسيس عن حقيقة هويته وإشادة العمل ككل بوفاء بينيلوب. وهكذا نجدنا في الفصل التالي أمام طالبي بينيلوب وقد رتبوا الأمور في باحة القصر الكبير استعداداً لاختيارها الموعود واحداً منهم. وهكذا إذ يكتمل الحضور، تخبرهم الملكة عن المباراة التي سيكون الفائز فيها ملكها المقبل. وعلى هذا النحو، يقبلون بعد تردد وكل واحد منهم ينظر إلى منافسه شذراً. وبالطبع يعجز أي منهم عن الفوز وهنا يظهر المتسول العجوز نفسه ويقتلهم واحداً بعد الآخر بمساعدة رفاقه من الرعاة، لتنتهي الأمور، بعد مذبحة الطفيليين تلك، باستعادة يوليسيس مملكته ولكن بخاصة، زوجته الحبيبة وسط غناء كورس جماعي يثني بعبارات مدهشة وبموسيقى تبدو في غاية السمو والنبل، على وفاء بينيلوب وشجاعتها. والحقيقة أن تلك الخاتمة الصاخبة جعلت كثراً من النقاد يتساءلون يومها عما أبعد غابريال فوريه (1845 – 1924) الذي كان قد تجاوز الستين من عمره، حتى تلك السن، عن فن أتت أوبرا «بينيلوب» لتؤكد أنه يبدو وكأنه وُلد معه من جديد…

……………………………

الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى