حياة

“بورخيس” في مواجهة مرايا ومتاهات الحياة

يقول الروائي البوليفي ماريو يوسا:” كان (بورخيس) ينزعج كثيرًا كلما سُئل: ما هي فائدة الأدب؟- كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجيب أنه لا أحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟

 

هذه مقدمة قد تشرح لنا الكثير عن شخصية خورخي لويس بورخيس المعلّم والفيلسوف إلى جانب كونه واحدا من أشهر كتاب القرن العشرين، المولود في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، لأب وأم من أصول برتغالية وأسبانية، في ضاحية باليرمو

كان والد خورخي محاميا وأستاذا في علم النفس وكان يملك مكتبة كبيرة، حرص على أن ينهل منها ابنه المعارف والثقافة، وكان خورخي يعتبر والده سيء الحظ في كونه لم يستطع الكتابة رغم شغفه وحبه لها

أجبر والده على التقاعد بسبب ضعف بصره، وليكون لهذا السبب أثر كبير ليس على نفسية خورخي في ذلك الوقت فحسب، بل حتى على ما يخبئه له المستقبل من معاناة متوارثة

 

السفر والكتابة

 

تعلم بورخيس الإسبانية والفرنسية إلى جانب الإنجليزية، وكان سفره إلى إسبانيا بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى ذو أثر عظيم عليه، فقد التحق كعضو في حركة حراسة المقدمة الأدبية المتطرفة، وجاءت أول قصيدة لبورخيس “ترنيمة للبحر” مكتوبة على أسلوب والت وايتمان

ولم يلبث حتى عاد مع أسرته إلى العاصمة الأرجنتينية حاملا معه الأفكار والمعتقدات التي تبناها، والثورة التي صارت تجري في عروقه حتى أصدر أولى مجموعاته الشعرية “حماس بوينس آيرس” عام 1923

شارك بورخيس في إصدار أكثر من جريدة ومجلة في الأرجنتين، بالإضافة إلى قصصه القصيرة والتي نال شهرته منها، كما كتب الشعر والمقالات والعديد المسرحيات وكم كبير من النقد الأدبي والافتتاحيات وتعقيبات على كتب وعدد ضخم من المختارات الأدبية

وقد كان بورخيس مترجما بارعا للأدب من الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية (بالإضافة إلى الإنجليزية القديمة والإسكندنافية) نظرا لبيئته التي تلقى فيها التعليم منذ الصغر والتي كانت تشجع على العلم والتثقف

 

أولى المتاعب

 

مع اعتلاء خوان بيرون عرش الأرجنتين عام 1946 طرد بورخيس من عمله بسبب علاقته المتوترة مع أفكار بيرون وحزبه، وتم تعيينه كمفتس على الدواجن والأرانب، وهو ما اعتبره إهانة في حقه، فاستقال فورا

وقال إحدى أشهر جمله واصفا حال بلاده تحت حكم بيرون: “الدكتاتوريون يجلبون الظلم، وإن الدكتاتوريين يجلبون العبودية، وإن الدكتاتوريين يجلبون القسوة، والأبغض من ذلك أنهم يجلبون الحماقة”.

وقبل هذا كان والده قد توفي وترك فيه هذا حزنا عميقا، وكان في نفس السنة في ليلة عيد ميلاده تعرض إلى حادث وأصيب بجرح في الرأس كاد أن يموت بسببه، وكتب على خلفية هذه الحادثة قصته القصيرة المشهورة “الجنوب”

 

فقدان البصر

 

بدأ بصر بورخيس في الغياب تدريجيا، مما فاقم معاناته التي ورثها عن والده، ونجح مع ذلك وبالرغم من اضطهاد السلطة له أن يعمل كرئيس جمعية الكتاب الأرجنتينيين (1950 – 1953) وكأستاذ للإنجليزية والأدب الأمريكي (1950 – 1955) في الجمعية الأرجنتينية للثقافة الإنجليزية

ومع كونه غير قادر على القراءة ولا الكتابة، حيث أنه لم يتعلم القراءة بنظام بريل، كان بورخيس يعتمد على والدته التي كانت دائما على قريبة منه لدرجة أنها عملت معه كمساعدته الشخصية

وقامت أمه بتزويجه لامرأة حتى ترعى ابنها بعد وفاتها على حد تعبيرها، وبالفعل تزوج من أرملة حديثة اسهما إليسا أستيتي ميلان، غير أنه كان زواجا فاشلا على جميع المقاييس، وقد عبر عن رأيه ذاك بقوله “المرايا والجماع أمران مقيتان لأنهما يضاعفان عدد الرجال!”

 

المكافأة

 

في مطلع الستينيات بدأت شهرة بورخيس في الظهور حول العالم، بعد حصوله على جائزة فورمنتر بالمشاركة مع صاموئيل بكيت، وكانت شهرة الأخير لدى المتكلمين بالإنجليزية قد خدمت خورخي أيما خدمة

وأخذ الفضول يدور حول هذا الكاتب المغمور الذي شارك الجائزة مع بكيت، وقامت الحكومة الإيطالية بمنحه لقب قائد تكريما له، كما عينته جامعة تكساس في أوستن لسنة واحدة، كما منحته الملكة إليزابيث الثانية وسام الإمبراطورية البريطانية في عام 1965

 

قصته مع نوبل للآداب

 

في عام 1971، كان بورخيس متأكداً من أنه سيحصل على جائزة نوبل، وقد كان وقتها مديراً للمكتبة الوطنية الأرجنتينية، وفي صباح اليوم الذي سيعلنون من ستوكهولم عن الجائزة التي طال انتظارها، ظهر بورخيس مرتديا بدلة أنيقة جداً

بعد ساعات، عندما أخبرته سكرتيرته (راوية القصة) أن الجائزة ذهبت للشاعر التشيلي بابلو نيرودا، لم يجفل بورخيس، لكنه خرج ذلك اليوم وللمرة الأولى والوحيدة من باب جانبي للمكتبة

 

وفاته

 

عاش بورخيس آخر أيامه وحيدا في شقة صغيرة بالعاصمة، لكنه ذهب في جولة أوروبية عام 1985 وكان مصابا بمرض سرطان الكبد، ولم يرجع بعد ذلك قط. فقد توفي في جنيف ف 14 يونيو 1986

قبل بضعة أسابيع من وفاته دهش الجميع عندما أعلنت مساعدة بورخيس، الآنسة كوداما، أنها قد تزوجت منه في الباراغوي، وأنها قد حصلت على الحقوق الحصرية لاستعمال أعمال بورخيس تجاريا، الأمر الذي قد عملته بغزارة منذ موته

‏تقول ماريا كوداما عنه:

كان مثل ليوناردو دافنشي، مجموعة متنوعة من الشخصيات والقدرات وممتلئا بالتباينات الدقيقة، كان له ذكاء مدهش وخيال واسع، كنت أحب عقله، ومشاهدته وهو يضحك لأنه كان يشبه نمرا تحت الشمس، كصورة تحمل الكثير من الجمال

 

من أشهر أعماله

 

المرايا والمتاهات

تقرير برودي وقصص أخرى

كتاب الرمل

مديح الظل

الصانع

مرآة الحبر

ومحاضرات سبع ليالٍ

 

من أشهر أقواله

 

“الناس يمكن أن تضيع حياتهم في المكتبة، يجب أن يتم تحذيرهم من ذلك”

“إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء”

“الشك اسم من أسماء الذكاء”

“إن الكتاب هو الأكثر دهشة بين كل الأدوات التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، إذ أن بقية الأدوات امتداد للجسد، الميكروسكوب والتليسكوب امتداد للعين، الهاتف امتداد للسمع، المحراث والسيف امتداد لليد، غير أن الكتاب امتداد لشيء آخر، امتداد للذاكرة والمخيلة”

زر الذهاب إلى الأعلى